"الجهاد بالطب"
**
قبل أن ندخل في هذا المعنى الواسع، أود أن أقف عند قولكم بأن التفقه هو في
أمور الدين وفي أمور الدنيا كذلك، بعض أبنائنا وشبابنا وإخواننا ربما
الواحد منهم يتأهل لكلية الطب، أو الهندسة، وفجأة بعد أن يدرس سنة أو
سنتين يريد أن ينتقل من كلية الهندسة ليتفقه في دين الله ـ عز وجل ـ ربما
امتثالاً لهذه الآية، فهل هذا الفعل صحيح، وماذا نقول له؟
*
إذا كان طبيبًا متفوقًا في طبه وقصد بعلمه هذا أن ينفع الأمة ويداوي
المرضى، ويساهم في خدمة الطب العالمي، ويرقى بالأمة الإسلامية، بدل أن
تصبح الأمة عالة على غيرها، فهذا عبادة في حد ذاته، وجهاد في سبيل الله
إذا صحت فيه النية؛ لأن الإسلام يريد من الأمة أن تستغني بقواتها الذاتية
عن غيرها، وللأسف نحن أمة كبرى وعددنا مليار ونصف مليار، وربما أزيد، ومع
هذا في كثير من الأشياء نحن عالة على غيرنا، أنا أقول نحن أمة في الغالب
بلادها زراعية، ومع هذا أكثر بلادنا تستورد أكثر من نصف القوت، ونحن أمة
سورة الحديد ومع هذا لم نتعلم صناعة الحديد، وعندنا سورة تقول:
(وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ)
وفيه بأس شديد إشارة إلى الصناعات الحربية، ومنافع للناس إشارة إلى
الصناعات المدنية.
ومع
هذا نحن لم نحسن الصناعات الحربية، ولا الصناعات المدنية، الله تعالى
يقول: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ
الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)، ونحن لم نستطع
أن نعد هذه القوة كما ينبغي ؛ لأننا عال على غيرنا، فالأمة التي لا تملك
أن تصنع السلاح الذى تقاتل به، وأن تزرع الأرض التى تأكل منها، وأن تصنع
الآلات التي تحتاج إليها أمة ضعيفة، أمة معرضة للخطر، فلذلك أنا أقول لهذا
الشاب: إذا نويت بعملك هذا وجه الله ـ عز وجل ـ فهذا عبادة في حد ذاته،
وجهاد في سبيل الله إذا صحت فيه النية.
**
إذن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم
وأن من في السموات ومن في الأرض يستغفر لطالب العلم"، هذا ينطبق على متعلم
الحديث، والفقه، والتفسير، وينطبق كذلك على الصيدلاني.
*
هذا ينطبق على كل علم نافع، أنا كتبت في هذا كتابًا اسمه "العقل والعلم في
القرآن الكريم" وجعلت فيه بابا أبين فيه أن العلم المراد ليس هو الذي جاء
في القرآن والسنة، وليس هو العلم الشرعي وحده، فحينما يقول تعالى في الشمس
والقمر (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي شيء يعلمون
هنا؟ ويقول (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ
أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِّلْعَالِمِينَ) ما دخل العلم الشرعي باختلاف الألسنة والألوان؟.
حتى
الآية التي قالت: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ).
بعد أن ذكر (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)
أشارت إلى علم الحيوان، وعلم النبات، وعلم الجيولوجيا، (مِنَ الجِبَالِ
جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا) وبعد ذلك قال (إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ)، أي علماء في أسرار الكون،
ليس فقط العلماء في أسرار الشرع.
السنن لا تحابي أحدًا
**
إذن فضيلة الشيخ نعود مرة ثانية إلى الفقه بمعناه الواسع، أي بالمعنى
القرآني والنبوي، وما أنواع الفقه التي تريدون أن تتحدثوا عنها؟
*
أنا تحدثت عن هذا الفقه المنشود في عدد من كتبي، وذكرت أن هذا الفقه يشمل
أول ما يشمل فقه السنن، فنحن نعلم أن لله تعالى سننًا أي قوانين عامة،
كونية، واجتماعية، تحكم الكون وتحكم الأمم والمجتمعات كما يقول الله تبارك
وتعالى (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ).
هذه
السنن تعامل الناس جميعًا، سواء المؤمن والكافر، فمن جد وجد، ومن زرع حصد،
ولو شخص كافر بدأ يحرث الأرض ويهيئها ويزرعها تعطيه نباتًا، ولو المسلم
تكاسل لن تعطيه أي شيء، ولو ظل يصلي ألف ركعة، فالأرض لن تعطيك إلا إذا
زرعتها، وأمامنا الكيان الصهيوني الذي أخذ بعض الصحارى في فلسطين وحولها
إلى جنات خضراء، وكانت في أيدينا مئات السنين، ولم نفعل هذا، فالسنن من
شأنها الشمول، والعموم، والثبات (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ
تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) ونحن عندنا نقص في
فقه هذه السنن.
** إذن هذا أول نوع من أنواع الفقه، وهو فقه السنن الكونية.
*
وكذلك الاجتماعية، أي سنن كونية واجتماعية، لأن كثيرًا مما علق عليه
القرآن سننًا اجتماعية في قيام الأمم وسقوطها، وقيام الدول وذهابها، وهذه
سنن يجب أن تراعى أيضًا.
** يدخل في هذا (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).
*
هذه سنة من سنن الله، وهي سنة التغيير، (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) وكذلك سنة التداول
(وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، وسنة النصر (وَكَانَ
حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ)، وهناك سنن كثيرة يجب أن تراعى.
المقاصد والمآلات
** وما النوع الثاني من أنواع الفقه الذي تودون الحديث عنه؟
*
هناك فقه المقاصد، كما أن لله في كونه سننًا، له في شرعه مقاصد وحكمًا،
فهو لن يشرع شيئًا عبثًا ولا اعتباطًا، كل ما خلق الله بحكمة، وكل ما شرع
الله بحكمة، ومن أسمائه تعالى "الحكيم"، وهذه ذكرت في القرآن مع "العليم"
"عليم حكيم" وأيضا "عزيز حكيم".
فهو
حكيم فيما خلق، كما قال أولو الألباب، حينما فكروا في خلق السماوات والأرض
(ربنا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
وكما لا يخلق شيئًا باطلاً، أيضا لا يشرع شيئًا عبثًا، وكل ما يشرع له
حكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وهذا أمر متفق عليه بين علماء
الأمة عامة، أي تعليل الأحكام؛ لأنه على أساسه يبنى القياس، أي أن تعطي
شبه الشيء حكم الشيء إن اشتركا في علة واحدة، والظاهرية فقط هم الذين
رفضوا تعليل الأحكام ورفضوا القياس، ولكنا نؤمن بأن لله تعالى حكمًا
ومقاصد.
** ما النوع الثالث من أنواع الفقه؟
*
النوع الثالث من أنواع الفقه، وهو فقه المآلات، إذ ينبغي للفقيه خصوصًا
الفقيه الذي يفتي الناس ويعلمهم أن يعلم أن هناك مآلات أي نتائج وآثار
تترتب على الأحكام، ولابد أن تكون هذه النتائج والآثار نصب عينيه.
والقرآن
ذكر لنا من ذلك نموذجًا في قصة الخضر ـ عليه السلام ـ مع موسى ـ عليه
السلام ـ حينما خرق السفينة، (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) فمآل هذا الأمر الغرق، قال له (أَلَمْ
أَقُل إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)، (قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي
بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) المهم في نهاية
الرحلة أراد أن يبين له أن المآل الذي قصده ليس هو الذي فهمه، فهو لا يريد
أن يغرق السفينة، وكيف يقدم عاقل على خرق سفينة هو يركبها، ولكن قال له:
(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ
فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ
سَفِينَةٍ غَصْباً) فهذا الملك الجبار المتعدي، ككثير من الأباطرة،
والأكاسرة، والقياصرة، وحكام هذه الأيام، هم لا يبالون بالملكيات الخاصة،
ولا يبالون بحقوق الشعوب، فهذا الملك كلما وجد سفينة صالحة جميلة، ضمها
إلى الأسطول الملكي، ولكن الخضر ـ عليه السلام ـ عرف هذا، فأراد أن يحدث
عيبًا في السفينة لينقذ السفينة لأصحابها، وحينما جاء مندوب الملك ونظر
وجد السفينة مخرومة، فنجت بهذه، وهذا النموذج مثال في فقه النظر إلى
المآلات، مآل هذا الخرق هو النجاة، وأيضًا مثل أنك قد تحدث فسادًا في
البعض لتنقذ الكل، فهذا فقه.
النبي
ـ عليه الصلاة والسلام ـ حينما اقترح عليه بعض الصحابة، أن يتخلص من
المنافقين، عبد الله بن أبي ومن معه، والذين يكيدون للمسلمين ويمكرون
بالنبي ويفعلون ما يفعلون، قال عليه الصلاة والسلام: "أخشى أن يتحدث الناس
أن محمدًا يقتل أصحابه".