خطاب الرئيس محمد مرسى الأخير يحتمل قراءتين، إحداهما تعطيه تقدير جيد، والثانية تمرره بدرجة مقبول، ومعلوم أن الاثنين من درجات النجاح. (1)
طيلة السنوات التى خلت كان خطاب الرئيس ــ حتى قبل أن نسمعه ــ لابد أن يكون «تاريخيا».
أما بعد إلقائه ــ ودون أن نقرأه ــ فهو يغدو دليل عمل للمرحلة وخارطة طريق للمستقبل ونبراسا يضىء الطريق للأجيال القادمة.
وحين تتناقل وكالات الأنباء فقرات منه فإن صحف اليوم التالى لا تكف عن التهليل محتفية بالأصداء العالمية
لخطاب الرئيس الذى تلقن كلماته زعماء العالم دروسا فى الحكمة وبعد النظر.
بعد الثورة صار بوسعنا أن نأخذ راحتنا فى تقييم كلام الرئيس، كما أن الصحف ما عادت مضطرة إلى نشر نصه كاملا
وما عاد تلاميذ المدارس مضطرين إلى ترديد فقراته ضمن نشيد الصباح. وأظن أن رؤساء تحرير الصحف
سوف يستحون من تنظيم مظاهرة التهليل له، حتى إذا انخرطوا ضمن «زفَّة» الأخونة!
بوسعنا أن نقول للرئيس إنك أطلت فى خطابك، وأن نصفه الأول الذى استغرق نحو الساعة
كان يمكن أن يختصر فى عشر دقائق، وأن الكلام المفيد كان فى نصفه الثانى ولا نجد حرجا فى تذكيره
بقول من قال إن كثرة الكلام ينسى بعضه بعضا ومن قال بإن خير الكلام ما قل ودل. لكننا ندخل بذلك فى دائرة التقييم
التى تميز فى كيفية قراءة الخطاب بين ما هو شعبى وما هو نخبوى، أعنى بين مخاطبة الرئيس لجماهير الشعب
فى مناسبة وطنية وقومية عامة، وبين خطاب رجل الدولة الموجه إلى السياسين والمثقفين فى مناسبة قومية أو ثقافية.
حين نشرت الصحف يوم الأحد الماضى (7/10) خلاصة لخطاب الرئيس فإنها نقلت عن بوابة الحكومة الإلكترونية (الرسمية)
خبرا له دلالته العميقة تضمن بيانات عن مخالفات المرور التى قيدت للوزراء فى الفترة الأخيرة
(لا تنس أن عمر الحكومة لا يتجاوز شهرين). وفهمنا من الخبر أن جملة الغرامات المفروضة
على الوزراء بلغ 23229 جنيها، منها 3269 جنيها غرامة محسوبة على سيارة رئيس الوزراء و4403 جنيهات
غرامة مقدرة على سيارة حراسته. لم نقرأ شيئا عن مخالفات سيارة الرئيس وسيارات الحراسة الخاصة به،
لكننا لن نفاجأ إذا ما قرأنا شيئا من ذلك على موقع «مرسى ميتر» الذى تخصص فى متابعة أداء الرئيس وقياس وفائه بالوعود التى أخذها على نفسه منذ ترشح لمنصبه.
(2)
حين قلت إن خطابه يمكن أن يعطى تقدير «جيد»، وهو ما وافقنى عليه بعض المخضرمين والخبراء،
فقد كان فى ذهنى أنه يستحق ذلك من وجهة النظر الجماهيرية والشعبية. فالجماهير تحب الاسترسال وترحب بالاستشهاد ب
النصوص والمصطلحات ذات الصلة بالمشاعر الإيمانية، وهى تستريح إلى اللغة التصالحية التى اتسم بها خطابه،
والتى حرصت على إزالة الالتباس وتصريف الاحتقان، وكان ذلك واضحا فى إشادته أكثر من مرة بالجيش
والشرطة وإعطاء الجيش وقياداته جرعة متميزة، قدرت جهود المجلس العسكرى فى الفترة الانتقالية
ووفائه بعهده، وأشارت إلى صبره على العنت الذى أصابه من جانب وسائل الإعلام.
ورغم أن الدعوة لم توجه إلى رئيس المجلس العسكرى السابق المشير محمد حسين طنطاوى ونائبه
ورئيس الأركان السابق الفريق سامى عنان، فقد حرص الرئيس على أن يؤكد ضمنا أن إخراج المجلس العسكرى
من المشهد لم يؤثر على اعتزازه بالجيش وتكريمه له. ولم تكن تلك هى الرسالة الوحيدة التى ذكرها أحد ذوى الصلة
بالمراجع العليا. لأن الرئيس حرص فى خطابه المطول على رسائل أخرى منها أنه يعتمد على شرعية شعبية تقوم
على الثقة فى الناس والاطمئنان إلى التفافهم حوله.. وهو ما دفعه إلى الطواف فى الاستاد فى سيارة مكشوفة حيا منها الجميع،
وقد ارتدى ثيابا عادية دون ربطة عنق، بل ودون حراسة مكثفة، وهو ما لم يفعله الرئيس السابق طوال 30 سنة.
الرسالة الأخرى التى أراد أن يوجهها الرئيس فى خطابه هى أنه يعيش مشاكل الناس ويتابع مصالحهم
من خلال المعلومات التى ذكرها عن التلاعب فى أسعار البوتاجاز ودقيق الخبر والملابسات التى تحيط بمشكلات المرور وغير ذلك.
ثمة رسالة ثالثة حرص الرئيس على توجيهها خلاصتها أن دائرة الفساد أوسع مما يظن كثيرون وأن معركة النظام
والحكومة ضد رموزه ومظاهره طويلة. وليس ذلك كل ما فى الأمر لأن الفساد أثر فى السلوك الاجتماعى،
بحيث أصبحت بعض القيم السلبية التى سادت فى المجتمع بحاجة إلى مراجعة. وقد ضرب لذلك مثلا
بتحرير مليون ونصف مليون مخالفة خلال ثلاثة أشهر، بمعدل نصف مليون مخالفة فى الشهر، منها 600 ألف مخالفة قيادة للسيارات عكس الاتجاه.
لقد تحدث الرئيس عن تلاعب بعض المستثمرين وتضييعهم ما يعادل مائة مليار جنيه حقوقا للدولة هى قيمة الأراضى
التى اختطفوها والحيل التى اتبعوها لتحويل الأراضى المباعة للاستصلاح الزراعى إلى قطع للبناء
أقيمت عليها عمارات بيعت للناس بأسعار باهظة. وفى الوقت نفسه تحدث عن نفسه وأنه يسكن فى طابق مستأجر بالحى الخامس
فى أطراف القاهرة (لم يذكر أنه يشغل المكان منذ قبل انتخابه رئيسا ويدفع إيجارا شهريا بقيمة ثلاثة آلاف جنيه.
انتهز الرئيس فرصة تزامن ذكرى 6 أكتوبر مع قرب نهاية المائة اليوم التى تحدث عنها عند ترشحه وعدد خمسة مجالات
للإنجاز فيها (الأمن والمرور والخبز والنظافة والوقود)، وعرض ما تحقق فى تلك المجالات (المدة انتهت أمس الاثنين 8/10).
ونجح فى إعطاء الانطباع بأن المشكلات كبيرة ومعقدة، رغم تحقق الكثير فى حل بعضها، ومن ثم أقنع سامعيه بأن القضاء
عليها يحتاج إلى وقت طويل كما يحتاج إلى تعاون المجتمع فى ذلك. وكأنه أراد أن يقول إن المائة يوم
لم تكن للقضاء على المشكلات، ولكن للشروع فى التعامل الجاد معها.
من هذه الزاوية أزعم أن الرئيس نجح فى مخاطبة الجماهير والتعامل معها، ومن ثم استحق التقدير
الذى سبقت الإشارة إليه، إلا أن الأمر يختلف والتقدير كذلك إذا أجرينا تقييما للخطاب من وجهة النظر النخبوية والسياسية.