[size=21]بسم الله الرحمن الرحيم
التأمين الصحي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد.
التأمين في الشريعة الإسلامية:
إن التأمين عقد مستحدث، لم يعرفه فقهاؤنا القدامى، لذلك لم يتعرضوا لحكمه، فيتحتم على الباحث استخراج حكمه في ضوء المبادئ والقواعد الفقهية، وبما أن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره، فنتناوله أولًا بكشف اللثام عن حقيقة التأمين وأقسامه.
وهنا نجد التأمين ينقسم من حيث شكله إلى قسمين :
أ- التأمين التعاوني ( Co – operative Insurance ): في هذا القسم من التأمين يتفق عدة أشخاص على أن يدفع كل منهم مبلغًا معينًا في صورة أقساط، وتصرف المبالغ المجتمعة في أداء التعويض لمن يصيبه الضرر، وإذا جاوز عوض الضرر مبلغه الذي دفعه من جانبه، فيكون الزائد في حق المصاب تبرعًا من الآخرين، ولا ترد المبالغ في هذا القسم إلى الأعضاء كما لا يقصدون بهذا التأمين إلى ربح ما، سوى تغطية الأضرار التي تصيب الأعضاء.
ب- التأمين التجاري ( Commercial Insurance ):
هذا النوع الثاني من التأمين هو السائد الآن، ويكون فيه العقد بين الشركة – المؤمن – والأفراد – المؤمن لهم -، والشركة تتكون من المساهمين غير المؤمن لهم، وتقصد الشركة من التأمين تحصيل الأرباح، أما المؤمن لهم فهم يدفعون أقساطًا معينة، وإذا لم يقع الحادث فلا يحصل لهم شيء لقاء الأقساط المدفوعة، كما أن هذا النوع من التأمين يشتمل على غرر كثير، لأن أيًّا من المؤمن والمؤمن له لا يدري بالقطع القدر المعين الذي يحصل له أو يدفعه، لأنه ربما يدفع المؤمن له الأقساط، وقبل تمامها يقع الحادث فيحصل له عوض التأمين بالكامل وربما يكمل دفع الأقساط ولا يقع الحادث.
وفي الجانب الثاني تقوم شركات التأمين التجاري باستثمار أموال التأمين، وتوزع أرباحها على المستفيدين المؤمن لهم، وفي مثل بلادنا الهند لا يمكن القطع بعدم إمكانية تلوث هذه الشركات بالحرام في معاملاتها، لأنه يغلب استثمار الأموال في الطرق والمشروعات غير الجائزة، كما يوجد لهذه الشركات تعامل ربوي عن طري البنوك الربوية.
هذا التقسيم للتأمين كان من حيث شكله، وهو تقسيم أساسي، وتوجد تحت القسمين تقيسمات فرعية، مثل تأمين الأشياء، تأمين ضد المسؤولية، تأمين صحي، ولكل نوع من هذه الأنواع تفاصيل كثيرة.
والذي يهمنا هنا هو تناول التأمين الصحي بالبحث والنقاش للتوصل إلى الحكم الشرعي بشأنه،
العنصر الأول: حقيقة التأمين الصحي
إن التأمين الصحي هو عقد بين شخص وشركة أو بين مؤسسة ومستشفى لتقديم خدمات طبية إلى الشخص المؤمن له، نظير اشتراكات أو أقساط يدفعها إليها.
وهذا التأمين الصحي له قسمان :
التأمين الإجباري: في بعض البلدان من العالم أصبح التأمين الصحي إجباريًّا لمواطنيها، ويلزم عليهم وفق قانون البلاد أو قانون الشركة أخذ التأمين الصحي، ولا خيار لهم في ذلك، فهذا اللزوم القانوني ينبغي أن يعتبر إجبارًا وإلزامًا، وهو الذي عبرناه هنا بالتأمين الإجباري، ومثله تأمين السيارات في بعض البلدان حيث أصبح فيها إجباريًّا قانونًا، وليس لمن يملك السيارة الخيار في الأمر.
التأمين الاختياري: والقسم الثاني لهذا التأمين الصحي هو التأمين الاختياري، ففيه يكون للأشخاص الخيار في أخذ التأمين الصحي وعدمه، وفي هذا القسم إذا قام أحد بتأمين نفسه لدى شركة أو مستشفى فذاك عمل نفسه، وليس هو ملزمًا بفعله، فهذا ما نسميه هنا بالتأمين الاختياري.
ومن الواضح أن الحكم في القسمين من التأمين يختلف، لأن الإجبار غير الاختيار، والذي نتناوله بالبحث والنقاش في الصفحات الآتية هو القسم الثاني، وهو التأمين الصحي الاختياري.
إن التأمين الصحي الذي بدأ رواجه في هذه الآونة، قد اشتدت الحاجة إليه، خاصة في البلاد التي تكون تكاليف العلاج فيها باهظة جدًّا، ولا يستطيع عامة الناس تحمل مصروفات العلاج مثل البلدان الأمريكية والأوروبية، بل بدأت أسعار العلاج في جميع البلدان والدول ترتفع، فدعت الحاجة إلى بيان حكم الشرع فيه.
وإن التأمين الصحي يمكن أن يكون تعاونيًّا أو تجاريًّا :
أ- أما التأمين الصحي التعاوني: فهو كما سبق: أن يتعاقد عدة أشخاص فيما بينهم على جمع الاشتراكات في صندوق خاص، ويصرف من هذا الصندوق على من يصيبهم المرض من الأعضاء، ويعرف كل من المشتركين أنه لا يقصد من هذا التأمين أي ربح، إنما الغرض منه تغطية تكاليف العلاج لمن يصيبهم المرض حسب مواصفات محددة، ويمكن هنا أن تكون تكاليف علاج أحد المصابين أكثر من مجموع اشتراكاته، فالمبلغ الزائد عن اشتراكاته يكون في حقه تبرعًا من المشتركين الأعضاء الآخرين، كما يرى كل عضو أنه إذا لم يصبه المرض فيكون مبلغه تبرعًا من جانبه في حق الأعضاء الآخرين .
في هذا النوع من التأمين الصحي يمكن ألا تكفي الاشتركات المجتمعة لعلاج المصاب، فيقدم الأعضاء مبالغ إضافية في الصندوق، كما يمكن أن تبقى المبالغ أو الفائض بعد تغطية التكاليف فيوزع على الأعضاء.
ب- أما التأمين الصحي التجاري: فهو عقد بين الشركة – المؤمن - والمساهمين – المؤمن لهم - وهو كأنواع التأمين التجاري الأخرى تقصد فيه الشركة إيجاد الأرباح عن طريق التجارة في الأموال المجتمعة، ويوجد فيه الغرر لكلا الجانبين، لأنه ربما يدفع المؤمن له ألف روبية مثلًا ويصيبه المرض وتتكلف شركة التأمين تكاليف العلاج، ولكن التكاليف تفوق ما قدمه ذلك المؤمن له، فمثلًا تبلغ تكاليف العلاج إلى خمسمائة ألف روبية، وبالعكس من هذا ربما يدفع المؤمن له مبلغه إلى شركة التأمين ولكنه لا يصيبه مرض ما، فيبقى مبلغ المؤمن له لدى الشركة ويصبح منفعة وربحًا لها، والمؤمن له لا يستفيد شيئًا لقاء ما دفعه من المبلغ إليها.
فيتخلص أن التأمين الصحي التجاري يشتمل على الغرر من الجانبين.
هذا، ونحن نعرف أن العلاج بعد ما أصبح غاليًا جدًّا وفي أغلب الأحيان تصبح مصروفات العلاج فوق مستطاع الإنسان، ففلي مثل هذه الحالة يضطرب المصاب اضطرابًا كبيرًا ويلقى حرجًا شديدًا، وإذا كان له تأمين صحي، فيجد اطمئنانًا كبيرًا، ويمكن له العلاج.
بقي أن نرى حكم الغرر الموجود في التأمين.
إنه من المعلوم أن الغرر الكثير هو الغرر المؤثر الذي يكون العقد معه غير صحيح، وذكر الشيخ الدكتور صديق الضرير ضابط الغرر المؤثر أنه: (هو الغرر الكثير في عقود المعاوضات المالية إذا كان في المعقود عليه أصالة، ولم تدع للعقد حاجة).
ثم أوضح أن الغرر المؤثر لا بد أن تتوافر فيه الشروط الآتية :
1- أن يكون في عقود المعاوضات المالية.
2- أن يكون كثيرًا.
3- أن يكون في المعقود عليه أصالة.
4- ألا تدعو للعقد حاجة.
أما الغرر اليسير فهو غير مؤثر في صحة العقد، لأن نفي جميع الغرر لا يقدر عليه، ولهذا فقد عفا الشارع عنه، وهناك قسم ثالث للغرر، وهو فوق اليسير ودون الكثير، أعني الغرر المتوسط، وفيه يوجد اختلاف بين الفقهاء، فيلحقه البعض بالكثير فيكون مفسدًا للعقد، ويلحقه الآخر باليسير فيأخذ حكم اليسير وهو صحة العقد بالرغم من وجوده.
أما الغرر الذي يتواجد في التأمين الصحي فهو كما أرى غرر متوسط، وأرجح إلحاقه بالغرر اليسير، وذلك لأن ما يوجد في هذا العقد من جهالة في مبالغ العلاج، لا تدري شركة التأمين كم تنفق على المريض، ولكن هذه الجهالة لا تكون مفضية إلى النزاع، لأن العلاج يكون وفق ما يصفه الأطباء ويكون التصريح بنوع العلاج ونوع الأدوية ومستوى المستشفى لإجراء العلاج فيه، فهذه الأمور تكون مصرحة، وبسبب هذا التصريح يوجد في العقد علم المعقود عليه إلى درجة ما.
العنصر الثاني: حكم الاتفاق بين المؤسسات للتعهد بمعالجة الموظفين
طيلة فترة معينة لقاء مبلغ معين مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها
صورة التأمين الصحي التي تكلمنا عنها في الصفحات السابقة كانت صورة الاتفاق بين الشخص –المؤمن عليه- وشركة التأمين أو مؤسسة التأمين –المؤمن-، ولا يكون الاتفاق بين الشخص والمستشفى مباشرة، إنما تتحمل شركة التأمين دفع مصروفات علاج المؤمن له، أو تعطيه ورقة شيك يستطيع بها المؤمن له تغطية نفقات علاجه في أي مستشفى من المستشفيات، وقد ذكرنا حكم الشرع في تلك الصورة.
أما صورة العنصر الثاني فهي تتعلق بالاتفاق بين المؤسسات والمستشفيات، والفارق بين الصورتين أن المستشفى لا يباشر العقد في الصورة الأولى مع المريض، بل يعقد مع شركة التأمين، وشركة التأمين تعقد مع المؤمن له، أما الصورة الثانية فالمؤسسة نيابة عن المرضى تعقد مع المستشفى الذي يقدم الخدمات.
ففي هذه الصورة يحتاج النظر إلى طبيعة الخدمات المقدمة من جانب المستشفى إلى المؤسسة وعن طريقها إلى مندوبيها المرضى ليتجلى لنا حكم الشرع فيها.
ومن هنا نرى أن المستشفى يقدم إلى موظفي المؤسسة ممن يصيبهم المرض أنواعًا من الخدمات والمنافع والأشياء، يمكن تقسيم ذلك إلى ثلاثة أقسام :
قسم أول: خدمات من الرعاية ومعالجة الطبيب والفحوصات والعمليات.
قسم ثاني: منافع السكن في الغرف والانتفاع بتسهيلات أخرى متواجدة داخل المستشفى.
قسم ثالث: أشياء وأعيان تقدم إلى المريض مثل الحبوب والأدوية.
وهذه الأقسام الثلاثة تختلف فيما بينها في التكييف الفقهي، وذلك لأن القسم الأول يشتمل على خدمات، والذي يقدمها كل من الطبيب وموظفي المستشفى هم يعتبرون أجراء كالأجير المشترك، لأنهم يقدمون خدماتهم إلى هذا المريض وإلى غيره من المرضى، فالحاصل أن هذا القسم يأخذ حكم الإجارة، ويطلب شروط الإجارة لصحتها من أن تكون الأجرة معلومة، والمنفعة معلومة، والمدة معلومة.
أما القسم الثاني فهو أيضًا يأخذ حكم إجارة المنافع، كإجارة السكن الدور، ويحتاج لصحتها إلى شروط الإجارة من كون الأجرة والمنفعة والمدة معلومة.
أما القسم الثالث ففيه تقدم الأعيان لا المنافع، فهذا لا يأتي تحت الإجارة، لأن الإجارة لا تكون على تقديم الأعيان، بل إنما تكون على تقديم المنافع، فهذا القسم يأخذ حكم البيع.
وبعد هذا التفصيل حينما نلاحظ عقد الاتفاق بين المؤسسات والمستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين، ونستعرض تفاصيل الاتفاق بين ما تقدمه المستشفيات وبين ما تدفعه وتقرره المؤسسات ؛ نجد غررًا كثيرًا وجهالة فاحشة، وذلك لأن العمل غير متعين والمدة غير معلومة في القسم الأول، وكذلك المدة غير معلومة في القسم الثاني، وقدر الحبوب والأدوية ونوعها مجهول في القسم الثالث، فهذا الغرر وهذه الجهالة يجعلان العقد غير صحيح.
العنصر الثالث: حكم ما لو كان العقد بين الشخص والمستشفى
هذا العنصر من الاتفاق بين الشخص والمستشفى لا يختلف في حقيقته وماهيته وفي تفاصيل الخدمات والأعيان المقدمة من جانب المستشفى إلى الشخص المريض لقاء ما يدفعه إلى المستشفى من مبلغ حسب الاتفاق، لا يختلف هذا العنصر الثالث في جميع هذه الأمور عن العنصر الثاني.
فنظرًا إلى هذا التجانس بين العنصرين ولاشتمال هذا العنصر الثاني كذلك على الغرر الكثير في القسم الأول والثاني مما يقدمه المستشفى، وعلى الجهالة الفاحشة في القسم الثالث منه، يأخذ هذا العنصر حكم العنصر السابق، وهو المنع.
العنصر الرابع: حكم ما لو توسطت شركة تأمين تجارية أو تعاونية
في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالمعالجة
هذه الصورة للاتفاق لا تتم بين المريض والمستشفى، بل يتوسط وسيط فيما بينهما، والوسيط هنا هو شركة التأمين، والشركة قد تكون تجارية وقد تكون تعاونية.
هذا العنصر قريب من الصورة التي فصلناها في العنصر الأول من عناصر الموضوع كما سبق.
فالشركة التي تعقد مع الشخص تكون المعاملة بينهما، وتعين الشروط والمواصفات فيما بينهما، ولا يدخل المستشفى في العقد الجاري بينهما، وبعد تمام العقد بين الشركة والشخص المؤمن له، تقوم الشركة بالعقد فيما بينها وبين المستشفى، وتفاصيل خدمات المستشفى تتعين فيما بينه وبين الشركة، لا بينه وبين الشخص المريض، إنما يقدم المستشفى خدماته إلى المرض وفق ما تم بينه وبين الشركة من شروط ومواصفات.
فهذه نفس الصورة التي تحدثنا عنها في العنصر الأول، نعم هناك فرق صغير بين العنصر الأول وبين العنصر الرابع هذا، وهو أن المريض المؤمن له في العنصر الأول تكون له حرية في اختيار مستشفى ما، وإجراء علاجه في أي مكان، أنه يحصل من الشركة المؤمن دفع التكاليف المترتبة على علاجه أو تقوم الشركة بدفع مصروفات علاجه إلى المستشفى الذي تم فيه علاجه، أما العنصر الرابع هذا فالشركة تعين المستشفى وتكون لها اتفاقية معها، وعلى المؤمن له المريض إجراء علاجه في ذلك المستشفى.
بقي أن نرى أن الشركة إذا كانت تجارية أو إذا كانت تعاونية فالحكم يختلف في الأول عنه في الثانية أو لا يختلف.
إن شركة التأمين إذا كانت تعاونية فلا شك في جواز التأمين، وقد فرغنا من بيان أوجه الجواز، لأن الشركة التعاونية يكون العقد فيها من عقود التبرعات، وفي التبرعات يعفى الغرر.
أما إذا كانت شركة التأمين تجارية فهي مثل التأمين التجاري، يشتمل على الغرر المتوسط، ويوجد وراء هذا الغرر المتوسط اطمئنان كبير للمصابين المرضى، فإذا كان هذا التأمين إجباريًا فيكون الحكم الجواز، أما إذا كان اختياريًا ففي مثل بلادنا والبلدان التي تزيد فيها تكاليف العلاج ينبغي أن يكون الغرر المتوسط معفوًا عنه فيأخذ حكم الجواز.
العنصر الخامس: حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل
تكلم الفقهاء على اشتراط البرء على الطبيب واختلفوا في حكمه: ذهب الإمام مالك إلى جواز اشتراط البرء على الطبيب، ففي المدونة: (قال مالك: في الأطباء إذا استؤجروا على العلاج فإنما هو على البرء، فإن برأ فله حقه وإلا فلا شيء له).
ويقول الشبراملسي من الشافعية :
(ثم ينبغي أن يقال: إن جعل الشفاء غاية لذلك كتداويني إلى الشفاء أو ترقيني إلى الشفاء، فإن فعل ووجد الشفاء استحق الجعل، وإن فعل ولم يحصل الشفاء لم يستحق شيئًا، لعدم وجود المجاعل عليه)[1]
وقال ابن قدامة الحنبلي :
(ويجوز أن يستأجر طبيبًا ليداويه، والكلام فيه كالكلام في الكحال سواء، إلا أنه لا يجوز اشتراط الدواء على الطبيب، لأن ذلك إنما جاز في الكحال على خلاف الأصل للحاجة إليه، وجرت العادة به فلم يوجد ذلك المعنى ههنا، فثبت الحكم فيه على وفق الأصل)[2].
ولكن محشي المقنع يقول : (فائدة) لو قال: من داوى لي هذا حتى يبرأ من جرحه أو مرضه أو رمده فله كذا، لم يصح مطلقًا على الصحيح في المذهب)[3].
أما الحنفية فإنهم لم ينصوا على ذلك.
فالحاصل من اختلاف الفقهاء في اشتراط البرء على الطبيب، أن الإمام مالكًا جوز المشارطة على البرء إذا كانت بصيغة الإجارة.
وجوزها الشافعية كما قال الشبراملسي إذا كانت بصيغة الجعالة، أما الحنابلة فجوزها ابن قدامة، ومنعها محشي المقنع.
والذي أرى في اشتراط البرء على الطبيب لاستحقاقه الأجرة هو عدم الجواز، وذلك لعدة وجوه:
إن هذا العقد يقترن بشرط يوجد فيه غرر، لأن الشرط -وهو برء المريض- يحتمل وجوده وعدمه، ربما يبرأ المريض ربما لا يبرأ، فلا يمكن الوقوف على وجود الشرط في الحال.
يشتمل هذا العقد على غرر في محله كذلك لأن محل العقد هو العلاج حتى البرء، ولا يدري الطبيب ولا المريض مدة العلاج التي يحصل فيه برؤه، ربما يبرأ المريض من علاج يوم واحد، وربما يبرأ بعد مدة من العلاج، كما لا يمكن القطع بحصول البرء، والمعقود عليه مجهول ومحتمل للوجود والعدم .
ويحتوي العقد كذلك على أمر غير مقدور التسليم قطعًا، لأن الطبيب يعقد الإجارة على أمر لا يقدره، إذا سلمنا أن هناك إجارة كما يقول المالكية، لأن البرء عن المرض هو بيد الله تعالى، لا بيد الطبيب، والإجارة على ما لم يقدر عليه هي إجارة غير صحيحة، كما أن شخصًا عقد الإجارة على أنه يأخذ النجم من السماء أو مثل ذلك، فالإجارة تكون غير صحيحة.
وقبل الختام أود التنبيه على أمر مهم جدًّا، وهو أنه إذا لم تكن حرمة شيء منصوصة ومصرحًا بها، بل تكون حرمته مظنونة ويوجد فيه الجانبان، ولو كان جانب الحرمة غالبًا، ففي مثل هذا الشيء لا يصح أن تصدر فتوى تقرر السكان جميعًا آثمين، والتأمين الصحي اليوم كذلك، إن الناس يضطرون إلى اختياره، المسلم الأمريكي مضطر إلى التأمين الصحي، لأن كل أمريكي ملزم بالتأمين الصحي، ولا فرق فيه بين المسلم وغيره، ففي مثل هذه الحالة، والأمر غير منصوص على حرمته، إذا جاءت فتوى تحرم التأمين الصحي على الإطلاق فيكون السكان بأجمعهم مرتكبي الحرمة وآثمين.
فهذا أمر وددت التنبيه عليه، والله أعلم بالصواب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[/size]