أدوات النصب والجزم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: فالنواصب عشرة، وهي: أن ولن وإذن، وكي ولام كي، ولام الجحود، وحتى والجواب بالفاء، والواو وأو.
والجوازم ثمانية عشر، وهي: لم ولما وألم، وألما ولام الأمر، والدعاء ولا في النهي والدعاء، وإن وما، ومهما وإذ ما، وأي ومتى، وأين وأيان وأنا، وحيثما وكيفما، وإذن في الشعر خاصة.
--------------------------------------------------------------------------------
النواصب والجوازم التي تدخل على الفعل المضارع فتغير حاله من الرفع إلى النصب، أو من الرفع إلى الجزم.
طيب ! المضارع إذا دخل عليه ناصب؛ فإنه يكون منصوبا بهذا الناصب، وإن دخل عليه جازم؛ فإنه يكون مجزوما بهذا الجازم.
طيب! إذا لم يدخل عليه شيء … ما حكمه؟
يكون مرفوعا … طيب! مرفوع بماذا؟ مرفوع بالضمة. لماذا رُفع؟ ما علة رفعه؟ علة نصبه أنه مسبوق بحرف ناصب، علة جزمه أنه مسبوق بحرف جازم. ما علة رفعه؟.
نعم … يقولون: في الفعل المضارع بأن عامل الرفع فيه عامل معنوي، وهو تجرده من الناصب أو الجازم، وأن عامل الرفع في المبتدأ -كذلك- عامل معنوي، وهو الابتداء، وما عدا هذين العاملين؛ فإنه يكون عاملا لفظيا.
يعني أن الأسماء والأفعال لا بد لها من شيء يحدث فيها عملا معينا، فإن ارتفعت نقول: لماذا ارتفعت … ما الذي رفعها؟ وإن نُصبت، قلنا: ما الذي نصبها؟ وإذا جُرّت، قلنا: ما الذي جرها؟ وإن جزمت، قلنا: ما الذي جزمها.
فالمنصوبات والمجزومات والمجرورات هذه واضحة؛ لأن النصب يحدثه عامل من عوامل النصب، وهو عامل لفظي، والجر يحدثه عامل من عوامل الجر، وهو عامل لفظي -أيضا- والجزم كذلك.
أما الرفع في الفعل المضارع، وفي المبتدأ خاصة؛ فإنه عامل معنوي، أي: نستطيع أن نقول إن العامل في اللغة العربية نوعان:
عامل معنوي، وعامل لفظي.
العامل المعنوي: لا يأتي إلا في بابين فقط: مع الفعل المضارع المرفوع، ومع المبتدأ فقط. أما ما عدا ذلك فإن العامل يكون عاملا لفظيا سواء كان عامل رفع، مثل: جاء محمد: محمد فاعل مرفوع عمل فيه الفعل الماضي جاء، فهو عامل لفظي، ولكن محمدُ قائم: محمد مرفوع. .. ما الذي عمل فيه الرفع ؟.
يقولون: عمل فيه الرفع الابتداء. الابتداء ما هو ؟.
هو شيء معنوي ليس شيئا لفظيا. الابتداء ليس شيئا لفظيا: كحرف النصب، أو حرف الجزم، أو حرف الخفض، أو الفعل أو نحو ذلك.
الابتداء: هو اهتمامك بهذا الاسم وتقديمه، واحتفاؤك به جعله يكون مرفوعا هذا هو الذي يسمى بالابتداء.
وكذلك الفعل المضارع إذا دخل عليه ناصب نُصب بهذا العامل اللفظي، وهو الناصب.
وإذا دخل عليه جازم جُزم بهذا العامل اللفظي وهو حرف الجزم اللام أو نحوهما.
فإذا لم يدخل عليه شيء فإنه يكون مرفوعا حينئذ. ما العامل الذي عمل فيه الرفع؟ هو عامل معنوي لا يُرى وليس عاملا لفظيا، وهو تجرده من الناصب والجازم.
طبعا هذا الأمر لا تتصورون أنه قضية مسلمة، وإنما فيه خلاف لكنه هو المشهور، والراجح أن عامل الرفع في الفعل المضارع، وفي المبتدأ عامل معنوي، وفيما عداهما فهو عامل لفظي.
فالنواصب -إذن- التي تدخل على الفعل المضارع ثم ينصب عشرة.
الواقع أن النواصب والجوازم المؤلِّف هنا سردها بهذه الصورة، وقد يبدو لأول وهلة من سردها أنها شيء يسير لكنها في الواقع تشكل بابا كبيرا من أكبر أبواب النحو، وهو ما يسمى بإعراب الفعل … باب إعراب الفعل من أكبر الأبواب، والأستاذ في الكلية يجلس قُرابة شهر وهو يشرح في هذا الباب.
لا تتصورون أننا سنستطيع أن نوفي هذا الموضوع، وهو موضوع النواصب والجوازم حقه في درس أو درسين، ولو أعطيناه ما بقي من مدة الدورة لما كفاه بالصورة التي نريدها؛ لأن في الحديث عن النواصب تفصيلات كثيرة جدا، وخاصة في أن متى تُضمر جوازا؟ ومتى تضمر وجوبا؟.
والكلام طويل في هذا، وما فيه أيضا من قضايا خلافية فنحن سنمر عليه مرورا سريعا قدر الطاقة، ولن نطيل فيه كثيرا، ولن نختزله -أيضا- بالصورة التي فعل المؤلف، وقد حاولت أن أحقق جمعا بين الأمرين، ولخَّصت ملخصا يسيرا جدا لقضية الحروف النواصب.
فالحروف النواصب سردها المؤلف -رحمه الله- فقال إنها عشرة، وهي: أن ولن وإذن وكي، ولام كي التي تسمى لام التعليل، ولام الجحود وهي التي تسمى لام النفي، وحتى، والفاء والواو إذا وقعتا في الجواب. أو كما قال المؤلف: الجواب بالفاء، والواو والحرف الأخير أو.
هذه الحروف العشرة لو نظرنا إليها لجعلناها فئات: الفئة الأولى من هذه الحروف فئة تنصب بنفسها، وهي الحروف الأربعة الأولى، وهي: أن ولن وإذن وكي. وفئة ثانية تنصب بأن مضمرة جوازا، وهي: لام كي أو لام التعليل. والفئة الثالثة فئة تنصب بأن مضمرة وجوبا، وهي: لام الجحود وحتى والفاء والواو إذا وقعتا في الجواب وأو.
سنعيد -إن شاء الله- الفئات أيضا هذا التقسيم إلى هذه الفئات ليس محل اتفاق مائة في المائة، وإنما هو -يعني- من التقسيمات الجيدة الشائعة.
الحروف التي تنصب بنفسها، وهي الفئة الأولى، وهي الحروف التي تنصب بنفسها، وهي أربعة: أن ولن وإذن وكي.
والفئة الثانية هي الحروف التي تنصب بواسطة أن المضمرة جوازا، وهي: لام كي أو لام التعليل.
والفئة الثالثة هي الحروف التي تنصب بواسطة أن المضمرة وجوبا، وهي الخمسة الباقية: لام الجحود وحتى والفاء أو الواو في الجواب وأو.
إذن نلحظ من ذلك لو أمعنا النظر لوجدنا أنَّ أن هي المهيمنة على هذا الباب؛ لأنها إما أن تنصب وهي ظاهرة، وهي تسمى -تكاد تكون- أم الباب، وإما أن تنصب وهي مضمرة جوازا وذلك بعد لام التعليل أو لام كي، وإما أن تنصب وهي مضمرة وجوبا وذلك بعد الحروف الخمسة الأخيرة.
إذن هذه التي تسمى نواصب، وهي الحروف الستة الأخيرة، الواقع أنها ليست هي النواصب، وإنما هي الناصب مستتر تحتها أو خلفها، وهي مجرد ستار وغطاء للناصب الحقيقي وهو أن، نُفَصِّل قليلا أنْ هذه … أيضا أن نفسها تحتاج إلى وقفات؛ لأن أنْ هذه ليست نوعا واحدا، وتكاد تكون أنواعها متداخلة إلى حد ما.
فـ أن هذه تارة تكون مفسِّرة، وتارة تكون زائدة، وتارة تكون مخففة من الثقيلة، وهي أخت أنَّ الناسخة، تخفف -أيضا- فتصير أنْ فيصير لها أحكام خاصة، وتارة يصح فيها الوجهان: أن تكون مخففة وناصبة، وتارة تكون ناصبة للفعل المضارع وهي التي معنا، وكلها في النطق متشابهة، بل متحدة.
فالمفسرة -مثلا هذه الأمور سأستعجل فيها لن أتوقف فيها طويلا- المفسرة هي: المسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه، و هذه القضية لو وقفنا نتحدث فيها لطالت، مثالها: كتبتُ إليهِ أنْ يفعلَ كذا، أو بأن يفعل كذا، وهي التي ربما كانت مرادفة لأي. كتبتُ إليه أي: قلت إليه، أي: طلبت منه بأن يفعل كذا.
والزائدة: هي الواقعة بين القسم ولو، كما لو قلت مثلا: أقسم بالله أن لو يأتيني زيد لأكرمنَّه. وأيضا منها قوله -تعالى-: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ الواقعة بعد لما -أيضا- داخلة في الزائدة، كما في قوله -تعالى-: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ .
وكلمة زيادة في القرآن الكريم لها خصوصية ليست ككلمة زائدة في الكلام العام. حينما تقول: بأن هذا حرف زائد، أو أن تقول: هذا مبتدأ مرفوع لفظا مجرور محلا بحرف الجر الزائد، أو نحو ذلك في القرآن الكريم؛ فإن معنى الزيادة إنما هي قضية تتعلق بالحكم الإعرابي، أما الناحية المعنوية فإنه ليس هناك شيء في القرآن ليس له معنى، وإنما جاءت لتؤدي معنًى مهما، ومعنى كبيرا قد يكون ظاهرا، وقد يكون ليس بظاهر.
النوع الثالث من أنواع أنْ هي: المخففة وهي المسبوقة بعَلِمَ، أو أي فعل من أفعال العلم … المسبوقة بعلِم أو غيره من أفعال العلم هذه في الغالب تكون مخففة من الثقيلة، وهذه كثيرة جدا في القرآن، كما في قوله -تعالى-: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وفي قوله -تعالى-: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا .
فتلحظون أن الفعل المضارع إذا جاء في القرآن بعد فعل يدل على العلم؛ فإن أنْ هذه تكون مخففة ويرتفع الفعل المضارع بعدها، فإن جاءت بعد فعل يدل على الظن؛ فإنها تكون حينئذ محتملة بأن تكون مخففة فيرتفع الفعل المضارع بعدها، ويحتمل أن تكون ناصبة فينصب الفعل بعدها.
ولذلك جاء في بعض الآيات قراءتان سمعيتان كلتاهما متواترتان: إحداهما بالرفع، وإحداهما بالنصب. فالتي بالرفع تكون أنْ فيها مخففة من الثقيلة أخت إنَّ الناسخة، والتي بالنصب تكون أنْ فيها هي الناصبة.
وأنْ المحتملة للوجهين المخففة والناصبة هي الواقعة بعد فعل ظنٍّ، كفعل: حسِب أو نحو ذلك كما في قوله -تعالى-: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ هذه الآية قرئت بوجهين: قرئت بالنصب: حَسِبُوا ألاَّ تَكُونَ فِتْنَةً، وقرئت بالرفع: حَسِبُوا ألاَّ تَكُونُ فتنةً. وكلا الوجهين جائز؛ لأنهما قراءتان سمعيتان؛ ولأن أنْ إذا وقعت بعد فعل من أفعال الظن مثل: حسب أو ظن أو خال أو نحو ذلك؛ فإنها تكون محتملة بأن تكون مخففة من الثقيلة؛ فيرتفع الفعل المضارع بعدها، ولأنْ تكون ناصبة للفعل المضارع فينصب الفعل المضارع بعدها.
والناصبة هي التي لا يسبقها فِعلُ عِلمٍ ولا فعل ظنٍّ، وهذه كثيرة جدا في القرآن كما في قوله -تعالى-: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ وكما تقول: أريد منك أنْ تحضر، وأنْ تعمل كذا، وأنْ تعمل كذا … وما إلى ذلك.
هذا مرور سريع على أنواع أنْ ونحن الآن لسنا بصدد التفصيل في أنواع أنْ وإنما نحن بصدد أنْ الناصبة فقط.
فـأنْ الناصبة هذه ما نوعها … أن الناصبة للفعل المضارع هي: حرف مصدريٌّ: لأنها مصدرية تؤول مع ما تدخل عليه بمصدر، ونصْبٌ: لأنها تنصب الفعل المضارع إذا دخلت عليه، واستقبال: لأنها تدل على ذلك.
فحينما تقول: أريد منك أن تحضرَ معك كتاب النحو. فهي هنا ناصبة؛ لأنك نصبْتَ الفعل بعدها، فقلتَ: أنْ تحضرَ.
ومصدرية: لأنها تؤول مع ما بعدها بمصدر؛ لأن التقدير: أريد منك إحضار كتاب النحو، أريد منك أنْ تحضرَ … أريد منك إحضار كتاب النحو لقوله تعالى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي التقدير: والذي أطمع منه مغفرة أو غُفران خطيئتي يوم الدين.
فهي إذن ناصبة؛ لأن الفعل الذي بعدها يُنصب، ومصدرية؛ لأن الفعل الذي بعدها يؤول … تؤول معه بمصدر، واستقبال؛ لأنها تكون للمستقبل فأنت تقول: أريد منك أنْ تحضرَ، أي: غدًا، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي أي: إن شاء الله -تعالى- يتجاوز عني يوم الحساب.
وكما قلت لكم: أمثلتها كثيرة كما في قوله -تعالى-: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي وكما في قوله -تعالى-: وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وكما في قوله -تعالى-: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وكما في قوله -تعالى-: وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ أي: يجعلوه.
فالحاصل إذن أنَّ أنْ هذه -كما ذكرت لكم- ناصبة ومصدرية ودالة على الاستقبال، وهي -أيضا- نوع واحد من خمسة أنواع أشرنا إليها.
الحرف الثاني لَنْ، لن أيضا من معانيها أنها حرف نفي، وأنها حرف نصب، وأنها حرف استقبال، كما إذا قلتَ مثلا: لن يحضرَ محمدٌ هذا اليوم. لن يحضر: فيه نفي، وفيه نصب للفعل، وفيه استقبال؛ لأنك إنما تتحدث عن أمر مستقبل، أي: أنه لن يحضر فيما نستقبل من الوقت، وأمثلتها وشواهدها كثيرة جدا في القرآن كقوله -تعالى-: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ إلى غير ذلك.
الحرف الثالث من الحروف الأربعة، أي: من حروف الفئة الأولى التي تنصب بنفسها: هو إذَنْ. .. متى ينصب الفعل المضارع بعد إذن؟.
كما ترون أن النصب بـأنْ كثير جدا، وليس له شروط، والنصب بـلنْ أيضا كثير جدا وليس له شروط، أما النصب بـإذن فهو ليس في كثرة النصب بـأنْ ولن، وكذلك فإنه لا بد أن يتوافر فيه ثلاثة شروط على الأقل؛ لكي يصح النصب بها.
إذن هذه ما معناها؟.
هي حرف جواب، وحرف جزاء -أيضا- وحرف نصب، الغالب في حروف الجواب والجزاء أن تكون حروف جزم -كما سيأتي- معنا في حروف الشرط، لكن إذن حرف نصب؛ لأنها ضمن نواصب الفعل المضارع، وحرف جواب؛ لأنها تقع جوابا لكلام سابق؛ وحرف جزاء -أيضا- لأنها بمثابة الجزاء وليس الجواب فقط.
إذا قال لك شخص مثلا: سأزورك غدا، فقلت له: إذَنْ أُكْرِمَك. إذا قال: سأزورك غدا، فقلت له: إذن أكرمَك، إذن نصبتْ الفعل المضارع الواقع بعدها، وهو أُكرمَك، وأكرمك: فعل مضارع منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على الميم؛ لأنه مسبوق بحرف إذن التي تنصب الفعل المضارع نطبق عليها ما قيل فيها: أنها حرف نصب هذا واضح، وحرف جواب: أن الرجل قال: سأزورك غدا، فأجبته أنت: إذن أكرمَك، فهذا حرف جواب له، وحرف جزاء -أيضا- أي: أنك كأنك قد تُجازيه وتكافئه على هذه الزيارة بهذا الإكرام.
الفرق بين الجواب والجزاء: أن الجواب يتضمن إجابة للمتكلم بجواب ما، وقد لا يكون هذا الجواب فيه مجازاة على عمل معين، أما الجزاء فإنه -يعني- يكون فيه شيء مثل الجزاء، ومثل رد ما يشبه أن يكون جميلا منه، فحينما يقول: سأزورك، فتقول له: إذن -والله- أكرمك، إذن أكرمك فتكون حينئذ جاوبته على هذا. .. على الزيارة بأنك وعدته بشيء، أو بأنك أجبته هل سيجدك أو لا يجدك، أو نحو ذلك، ثم بعد ذلك ثنيت بأن قدمت له ما يشبه الجزاء والمجازاة على تفضله بزيارتك، وهو أنك وعدته بالإكرام.
فهي إذن حرف جواب وجزاء ونصب، لا تنصب الفعل المضارع إلا بشروط ثلاثة: الشرط الأول: أن تقع في صدر جملة في الجواب. .. أن تقع في صدر جملة الجواب، فلا يصح أن تكون في الوسط، أو في الحاشية أو قريبة من الآخر،
والشرط الثاني: أن يكون المضارع بعدها مستقبلا. .. أن يكون الفعل المضارع بعدها مستقبلا؛ لأنك تعِده بشيء لم يحصل، فإن كان الفعل المضارع بعدها حالا؛ فإنه لا يتعين نصبه، وإنما يجوز رفعه
الشرط الثالث: ألا يفصل بينها وبين الفعل الذي تريد أن تنصبه بفاصل إلا بعد الفواصل التي تستثنى في الغالب.
ومن أبرز الفواصل التي تستثنى القسم، فلو قال لك: سأزورك غدا، فقلت: إذن أكرمَك، أو إذن -والله- أكرمك، فلا حرج؛ فإن الفصل بالقَسم لا يؤثر بشيء فيجوز أن تنصب مع الفصل بالقسم.
وأيضا من الفواصل التي تباح في هذا الموضع الفصل بالنداء: فإذا قال مثلا: سأزورك غدا، فقلت: إذن -يا صاحبي- أُكرمَك. لا حرج من الفصل بالنداء؛ لأنه ليس غريبا، وإنما في جو الحديث العام.
كذلك لو فصلت بلا النافية. .. لا النافية -طبعا- ستعكس المعنى المراد، لكنه لا مانع من الفصل بها، فقال: سأزورك، لو قال: سأزورك غدا متأخرا، وأنت لا يطيب لك الزيارة متأخرا؛ لأنك تنام مبكرا، فقلت: إذن لا أكرمَك. يجوز حينئذ النصب، ولا حرج في الفاصل؛ لأنه لا النافية لكن الجزاء جاءه معاكسا لما يتوقع.
ففيها جواب: أنك جاوبته، وفيها جزاء: أنك جازيته، لكن الجزاء قد يكون إيجابيا، وقد يكون سلبيا، قد يكون مقبولا، وقد لا يكون مقبولا، لكنه في الواقع جزاء، فالمكافأة تسمى جزاء والعقوبة تسمى جزاء أيضا.
فالحاصل أن إذن تنصب الفعل المضارع، ولكن لا بد لها من ثلاثة شروط: أن تقع في جملة الجواب في صدرها، وأن يكون الفعل المضارع بعدها مستقبلا، وألا يفصل بينها وبينه بفاصل، إلا بعض الفواصل التي لا تؤثر: كالقسم: إذن والله، النداء: إذن يا محمد، أو إذن يا صاحبي، أو إذن يا عزيزي، ولا النافية.
ومن شواهدها المشهورة التي تتناقلها الكتب قول الشاعر:
إذَنْ واللــهِ نَــرْمِيَهُم بِحَــرْبٍ
تُشِيبُ الطِّفْلَ مِنْ قَبْلِ المَشِيبِ
فهو هنا فيه الجواب والجزاء، ولكنه جزاء معاكس، يعني: لا نكافئهم، وإنما إن هجموا علينا فإننا سنرميهم بهذه الحرب التي تشيب لها الولدان.
الحرف الرابع من الفئة الأولى من النواصب وهي التي تنصب بنفسها هو: كي وكي هذه حرف مصدري ونصب، حرف مصدري كما قلنا في أنْ أي: أنها تؤول مع ما بعدها بمصدر، وحرف نصب: أنها تنصب الفعل المضارع، ولا بد. .. ويشترط في النصب بها شرط واحد، وهو أن تسبقها لام التعليل لفظا أو تقديرا.
لا تَنصِب كي إلا أن تُسبق بـلام التعليل في اللفظ أو في التقدير؛ فإن سبقتها لام التعليل لفظا نَصبت، كما في قوله -تعالى-: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ لكي: كي هنا نصبت الفعل المضارع تأسَوْا، وعلامة نصبه. .. ما هي؟ حذف النون؛ لأنه من الأفعال أو من الأمثلة الخمسة وجاز ذلك؛ لأنه تحقق فيها الشرط فقد سبقت بلام التعليل لفظا.
أو سبقت بها تقديرا، كما في قوله -تعالى-: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ كي لا يكون: فقد سبقت بـلام التعليل المقدرة؛ لأن المعنى: لكي لا يكون.
لام التعليل تعرف أنها مقدرة حينما يصح أن تدخلها؛ فإن صح أن تدخلها فهي مقدرة، وتكون حينئذ كي هي الناصبة، فإن لم تُسبق كي بـلام التعليل -لا لفظا ولا تقديرا- صارت كي نفسها حينئذ هي التي للتعليل، وصار النصب حينئذ بـأن مضمرة بعد كي.
هذه هي الفئة الأولى، وهي الأربعة التي تنصب بنفسها، وأظن أن الوقت لا يسمح بالاسترسال أكثر من هذا، ونأخذ لنا سؤالين أو ثلاثة؛ لأن الوقت انتهى، ونكمل -إن شاء الله- في الدرس القادم، كما قلت لكم: هذا الموضوع من الموضوعات الطويلة، وأنا أحاول أن أمنع نفسي من الاسترسال فيه، لكنه يفرض ذلك.
س- يقول: أليست الأسماء ستة وليست خمسة ؟
ج- الواقع أنها ستة، وكما ذكرت: أن بعض الكتب تسميها خمسة، والإشكال أو الخلاف بينهم في الاسم الأخير، وهو هنو هل يدخل أو لا يدخل.
س- يقول: ذكرتَ أن الفعل الأمر يُبنى على ما يجزم به مضارعه. فكيف الشأن في مثل هلِمُّوا وتعالوا ؟
ج- الواقع أن هلموا وتعالوا فيهما كلام بين العلماء: هل هما فِعلا أمْرٍ حقيقيان، أم أنهما اسما فعْلِ أمرٍ.
س- ما رأيك في أن يُصور الملخص الذي معك ؟
ج- الواقع أن المُلخص الذي معي ليس معدًّا للتصوير، وإنما هو رءوس عناوين لا تكاد تقرأ، أنا أجد صعوبة في قراءته؛ لأني نسيت النظارة.
س- غدا يوم الجمعة هل ثمة هناك درس يوم الجمعة -جزاك الله خيرا ؟
ج- الواقع أن يوم الجمعة -كما بلغني من إدارة الدورة -استراحة لجميع الدروس وليس لهذا الدرس فقط
والله أخشى من الملل والسآمة أن يكون متواصلا. .. درس، لكن لعلنا نجعل مجالا لدرس تقوية في وقت غير وقت الجمعة.
س- يقول: عرضت عليك هذا السؤال أمس ولكنك لم تتمكن من معرفة مضمونه، وسؤالي هو: في الجمل الآتية: جاء عمُّك، رأيت عمَّك، ومررت بعمِّك. أليس عمك هو أخ لأبيك؟! فإني أريد تبديل كلمة عمك بلفظ أخو أبوك -جزاك الله خيرا ؟
ج- يعني هذه الأمر فيها سهل حينما تقول مثلا: جاء أبو فلان، أو جاء أخو فلان: فأبو أو أخو الأولى. .. أخو أو أبوا هذه تعرب بحسب موقعها من الإعراب، أما ما بعدها وهو المضاف إليه، فإنه يكون مجرور بالإضافة: جاء أبو بكرٍ، رأيت أبا بكرٍ، مررت بأبي بكرٍ، وكذلك بالنسبة للعم، تقول: جاء أخو أبيك، رأيت أخا أبيك مررت بأخي أبيك.
فالأمر فيها -يعني- لا يتغير أن تكون أخو أبيك، أو أخو فلان، أو أبو فلان. الأمر لا يتغير. .. يعني ليس كون عمك يمكن أن يغير الصياغة فيه بأي شكل من الأشكال، كما إذا أدخلت أبو أو أخو على أي اسم آخر؛ فإنها هي تعرب بحسب موقعها وما بعدها سيكون مضافا إليه سواء كانت كلمة أبيك أو كان كلمة أخرى.
س- يقول: أليس من شروط عمل الأسماء الخمسة أو الستة أن تكون كلمة فو غير مختومة بحرف الميم، وإلا أعربت بالحركات هذا ما درسناه في الثانوية ؟
ج- هذا صحيح، لكني أنا لم أمسك بالأسماء الستة واحدًا واحدا لكي أفصل في شروطها، أنا ذكرت الشروط العامة التي تشترك فيها الأسماء الستة كلها.
وهي: الشروط الأربعة: أن تكون مفردة، ومكبرة، ومضافة إلى غير ياء المتكلم، وكل واحد من هذه أو ليس كلها إنما بعض هذه له شروط خاصة أخرى إضافية، ومنها كلمة الفم.
الفم لا تعرب إعراب الأسماء الستة إلا إذا حذفت منه الميم، تقول: فوه. .. اعتني بفِيك، ونظِّف فَاكَ، فإذا اتصلت به الميم، فإنه يعرب بالحركات؛ ولذلك يقول ابن مالك:
والفم حيث الميم منه بان
أي: حينما تنفصل منه الميم يكون اسما من الأسماء الخمسة، أما حينما تتصل به فإنه لا يكون كذلك، وإنما يعرب بالحركات.
... هذا صحيح، يقول: في قولنا أنَّ أنْ المخففة يرتفع بعدها الفعل المضارع. ألا يمكن أن نعبر تعبيرا آخر، وهو أنَّ أنْ المخففة يبطل عملها ويرجع الفعل المضارع إلى أصله وهو الرفع.
-الواقع أنّ أنْ المخففة هي لا تعمل في الفعل المضارع أصلا شيء؛ لأن أنْ المخففة من أخوات إنَّ فهي قد تعمل أحيانا، وسواء كانت مثقلة أو مخففة فهي من أخوات إنَّ وإنَّ لا عمل لها أصلا في الفعل المضارع.
فنحن حينما نقول يرتفع الفعل المضارع بعدها هو نفس التعبير الذي ذكرت أي: أنها لا تؤثر في الفعل المضارع شيئا أي أنها بعبارة أخرى: ليست هي الناصبة وإنما هي نوع آخر يرتفع الفعل المضارع بعدها أي: يكون مرفوعا أو يبقى على ارتفاعه كما هو أصح.
س- ما رأيك في كتب إعراب القرآن وخاصة الكتب العصرية ؟
ج- الواقع -يعني- كتب الإعراب العصرية لا أستطيع أن أحكم عليها؛ لأنني ما قرأتها حتى أستطيع أن أحكم عليها، وإنما هناك كتب -يعني- أُلِّفت حديثا في مجلدات في إعراب القرآن وأسمع … يعني ما اطلعت عليه اطلاعا كاملا، اطلعت عليها اطلاعا موجزا. .. أنها تقوم بالواجب خاصة وتؤدي الغرض خاصة في أنها تعرب القرآن إعرابا مفصلا، يعني هذا وجه القيمة فيها أنه لا يغنيك عنها غيرها من الكتب.
فمثلا لو أخذت ببعض كتب إعراب القرآن القديمة: كـ"إعراب القرآن" للنحاس، أو لمكي بن أبي طالب القيسي، أو "البيان في إعراب القرآن" للأنباري أبي البركات، أو "إملاء ما منَّ به الرحمن في إعراب القرآن" للعكبري، أو كتاب الأخفش أو كتاب الفراء أو غيرها هذه الكتب ألَّفها العلماء.
وهم لا يهتمون من القرآن إلا بما هو يحتاج لإعراب في نظرهم، يعني هناك أمور كثيرة يقفزونها؛ لأنها في نظرهم من الأمور السهلة التي لا تحتاج إلى إعراب، لكنها بالنسبة لنا بسبب بعدنا عن النحو وغربتنا أصبح كل شيء في القرآن يحتاج إلى إعراب، وأصبح أغلب ما في القرآن يصعب علينا إعرابه.
فهذه الكتب الحديثة لا شك في أنها معِينة في هذا، ومن أبرز كتب التفسير التي اهتمت واعتنت بالقرآن: "كتاب تفسير البحر المحيط" لأبي حيان، وكتاب "الدر المصون في إعراب الكتاب المكنون" إعراب القرآن لسمير الحلبي، هذه من التفاسير المشهورة التي اهتمت واعتنت بإعراب القرآن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
أيها الإخوة في الله،: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله مع هذا الدرس السابع لمطلع الأسبوع الثاني من أيام هذه الدورة المكثفة المباركة -إن شاء الله-.
كنا بصدد الحديث في الدرس الماضي عن الفعل المضارع ونواصبه وجوازمه، وقلنا: إن الفعل المضارع يُرفع إذا تجرد من الناصب والجازم، وهذا هو القول المشهور، أي: أن رافع الفعل المضارع هو تجرده من الناصب والجازم.
وهناك أقوال أخرى وهي: أن رافعه حروف المضارَعة، أو أن رافعه حلوله محل الاسم، أو غير ذلك.
لكن الرأي الذي يرجح في هذا هو: أن رافعه تجرده من الناصب والجازم، ومعنى ذلك أنه إذا دخل عليه حرف ناصب فسينصب، وإن دخل عليه حرف جازم فسيجزم.
والحروف الناصبة تحدثنا عنها في اللقاء الماضي، وسأعيد ذلك سريعاً وسأتلوه -إن شاء الله- ببقيتها وبقية الجوازم، وأرجو أن تعينوني في هذا الدرس أن ننتهي فعلاً من النواصب والجوازم؛ لأني لا أرى أنها تحتمل في مثل هذا المختصر أن يُسرَف فيها أكثر من درس واحد.
فقلنا: إن نواصب الفعل المضارع -أولا- سردها المؤلف -رحمه الله- فقال: إنها: لن وأن وإذن وكي ولام كي ولام الجحود وحتى والجواب بالفاء أو الواو وأو.
وهي ثلاث فئات: فئة تنصب بنفسها، وهي الأربعة الأولى: أن ولن وإذن وكي.
وفئة تنصب بـأنْ المضمرة جوازًا، وهي: لام كي ولام التعليل، ومعها غيرها -كما سأشير-.
وفئة تنصب بأن مضمرة وجوباً، وهي الحروف الخمسة الباقية، وهي: لام الجحود وحتى والفاء والواو إذا وقعتا في جواب، وأو.
ومن العلماء من يختصر اختصاراً -وهي رغبة كثير منكم كما سألوني في الدرس الماضي- فيرون أن هذه الحروف هي الناصبة، ولا داعي لأن تقول: إن الناصب هو أنْ المضمرة جوازًا، أو أنْ المضمرة وجوبًا، وإنما تقول: منصوب بلام الجحود، منصوب بكي، منصوب بحتى، منصوب بالواو أو بالفاء … إلى غير ذلك.
فالقول المشهور: النصب بأن المضمرة جوازًا، أو وجوباً، وهناك قول آخر: أن تقول: إن هذه الحروف هي النواصب، ولا داعي لتقدير أن.
قلنا: إنَّ لن تنصب بنفسها -سأترك أن الأخيرة؛ لأن الحديث إنما يطول بالنسبة لـأن أكثر من غيرها- لن تنصب بنفسها، وهى حرف نفي ونصب واستقبال، وأمثلتها في القرآن كثيرة طويلة، يصعب إحصاؤها في مثل هذا المجلس، قوله -تعالى-: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ وقوله -تعالى-: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ ومثل قوله -تعالى-: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وغيرها من الآيات.
والحرف الثاني: إذن، وقلنا في إذن: إنها حرف جواب وجزاء، وتحدثنا -أيضاً- بالتفصيل عن شروطها..
إذن حرف جواب وجزاء ونصب، ولها ثلاثة شروط: أن تكون في صدر جملة الجواب، وأن يكون المضارع بعدها مستقبلا، وأن لا يفصل بينهما بفاصل غير القسم أو النداء أولا النافية..
الفصل بالقسم جوازه محل اتفاق، أما الفصل بالنداء أو بلا النافية، فإنه مختلف فيه.
فمن العلماء مَن يبيح الفصل بهما، ومنهم من لا يبيح. حينما يقول لك شخص: سأزورك غدًا. فتقول له: إذن أكرمَك، هذا هو الأصل ألا يفصل بينها وبين الفعل بفاصل. .. إذن أكرمَك: فهي حرف -كما ترون- حرف جواب؛ لأنه إذا قال: سأزورك غدًا، ينتظر منك الجواب: موافق أو عدمهما، وحرف جزاء في أن ما بعدها قد يكون نوعا من الجزاء والتكريم.
الجزاء قد يكون تكريمًا أو عكس ذلك لهذا الذي عرض عليك هذا العرض، وهي حرف نصب؛ لأنها تنصب الفعل المضارع. فإذا قال: سأزورك غدًا، فينبغي أن تجيبه، وأن يتضمن جوابك جزاء، هذا الجزاء قد يكون إكرامًا أو عدمه، تقول: إذن أكرمَك، أو لو قال: سأزورك متأخرًا، فستقول: إذن لا أكرمَك، أو لا أستقبلك. .. أو نحو ذلك.
والفصل بالنداء، أو الفصل بالقسم جائز باتفاقٍ، فيصح لك أن تقول: إذن -والله- أكرمَك، والفصل بالنداء: إذن -يا صاحبي- أكرمَك. أو الفصل بـلا: إذن لا أكرمَك. هذا الفصل كما قلت لكم: ليس محل اتفاق كما حصل بالنسبة للقسم.
الحرف الثالث الذي ينصب بنفسه كي وهي حرف مصدر أو حرف مصدري ونصب، ويشترط في النصب بها أن تسبق بـلام التعليل سواء كانت هذه اللام ملفوظة، وهو الذي ينبغي وهو الأكثر كما في قوله -تعالى-: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ لكيلا تأسَوْا: سُبقت كي بـلام التعليل فنصب الفعل المضارع الذي بعدها، وهو: تأسوا بحذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، أو أن تكون مسبوقة تقديرًا: كي لا يكون دُولَةً، كما في قوله -تعالى-: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ فهي على معنى لكيلا يكون دولة.
فإن لم تسبق كي لا باللام الظاهرة ولا باللام المقدرة فهي حينئذ حرف التعليل، ويكون النصب بأن مضمرة بعدها إما جوازًا كما هو رأْي، أو وجوبًا كما هو رأىٌ آخر.
إذًا الناصب الثالث هو كي، ولا بد للنصب بها من أن تُسبق بـلام التعليل ظاهرة أو مقدرة، فإن لم تسبق بلام التعليل صارت هي حرف التعليل، وصار النصب بأن مضمرة إما وجوبًا كما يرجح، أو جوازًا كما يراه البعض.
أما أنْ وهي أمُّ الباب وهي الأصل؛ لأنها هي الوحيدة التي تنصب ظاهرة ومضمرة، جوازًا ومضمرة وجوبًا، فهي حرف مصدري ونصب -أيضًا- كما في بعض أخواتها، وأيضا حرف استقبال.
وأنْ كما قلت لكم: يكثر أن تنصب ظاهرة كما في قوله -تعالى-: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ وكما في قوله -تعالى- وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وكما في قوله -تعالى-: أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وكما في قوله -تعالى-: وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ .
... وغيرها من الآيات وهي كثيرة ولا تحصى، ولو طلبت من أي واحد منكم أن يمثل لمَا أعْوَزَهُ المثال من القرآن الكريم.
أنْ هذه التي تنصب الفعل المضارع هي حرف مصدري لكنها ربما التبست بغيرها من أنواع أن الأخرى، وأنا في الدرس الماضي استطردت استطرادًا سريعًا لبعض أنواع أنْ، فقلت: إنَّ أنْ تأتي ناصبة للفعل المضارع، وهذه علامتها أن تكون مصدرية، وأن ينصب الفعل المضارع بعدها، بمعنى أنها يصح أن تؤول مع ما بعدها بمصدر، وأن تنصب الفعل المضارع.
والنوع الثاني وهي أنْ المخففة من الثقيلة، ما معنى كلمة مخففة من الثقيلة؟
يعني: أصلها أنَّ أخت إنَّ الناسخة. أنَّ التي تنصب الاسم وترفع الخبر إذا خففت من الثقيلة صارت أنْ وهي حينئذ مصدرية -أيضًا- وتعمل، ويكون اسمها في الغالب ضمير الشأن محذوف، وخبرها جملة اسمية أو فعلية أو نحو ذلك.
وينبغي أن تُفصل من خبرها بالسين أو سوف أو بعض حروف النفي، أو لو لكي تكون هذه فارقة بينها وبين أنْ الناصبة للفعل المضارع. هذه هي أنْ المخففة.
بالنسبة للنوع الثالث من أنواع أنْ -أيضًا- هي أنْ الزائدة. أنْ الزائدة متى تُزاد؟.
أن الزائدة تزاد بعد لمَّا كثيرًا، كما في قوله -تعالى-: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ كما في قوله -تعالى-: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ … وغيرها، فتزاد كثيرًا أنْ الزائدة بعد لمّا، وتزاد -أيضًا- حينما تقع بين القسم ولو، تزاد حينما تقع بين القسم ولو هكذا تكون زائدة.
بعض الشواهد عليها: تُزاد بعد لمّا كما في قوله -تعالى-: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ وكما في قوله -تعالى-: فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا وكما في قوله -تعالى-: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا .
وتزاد -أيضًا- حينما تقع بين القسم ولو، كما إذا قلت: أُقسم بالله أنْ لو يأتيني زيد لأكرمنَّه: أقسم بالله أنْ لو: وقعت هنا أنْ بين القسم وبين لو كما ترون، فهي في مثل هذا الموضع يُحكم عليها بالزيادة.
النوع الرابع: المفسِّرة، والمفسرة كما قلت لكم العلماء يقولون: إنه لا يوجد آيات أو شواهد أو أمثلة تتعين فيها أنْ المفسرة، وإنما أن هذه تكون مفسرة حينما تكون بمعنى أي: حينما تكون بمعنى أي، لكنها في الوقت نفسه يحتمل أن تكون ناصبة، ويحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة.
فإن كانت بمعنى أي ووقع بعدها فعل مضارع مرفوع فهي مفسِّرة، لكن المفسرة يقل أن يليها الفعل المضارع. الكثير في المفسرة أن يليها فعل أمر، ولذلك أغلب الآيات الكريمة التي وردت فيها أنْ المفسرة وليها فعل أمر أو وليها فعل مضارع مسبوق بـلا الناهية.
نظرتُ في كتاب الشيخ محمد عبد الخالق عظيمة دراسات لأسلوب القرآن فوجدته تحدث باستفاضة عن أنواع أنْ، وتحدث عن أنْ المفسرة، وذكر الآيات التي حملها بعض العلماء على المفسِّرة، لكنه قال: إن طائفة من العلماء لم يوافقوا في أنها تعين كونها مفسرة في هذه الآيات، وإنما هي تحتمل المصدرية، وتحتمل -أيضًا- المخففة من الثقيلة. .
المصدرية ناصبة للفعل المضارع -كما تعلمون- وليس خاصة بالفعل المضارع، فالمصدرية الناصبة للفعل المضارع تدخل على الأمر، وتدخل على الماضي، وتدخل على المضارع، لكنها لا تعمل إلا في المضارع فقط.
هذا هو الفرق أما هي فهي مصدرية ربما تدخل على الأمر، وهذا كثير وقد تدخل على الماضي -أيضًا- وتدخل على المضارع فلا تعمل عملها إلا في الفعل المضارع فقط حيث تنصب.
أما إذا دخلت على غيره من الأفعال فهي مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر، لكنها لا تعمل شيئًا، هذه هي التي كثيرًا ما تلتبس بالمفسّرة، ولذلك -مثلا- أذكر لكم بعض الآيات التي ذكر فيها أنها مفسّرة، في قوله -تعالى-: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى .
"أنْ يا مُوسى": إذا نطقناها بدون إدغام.
يقول الزمخشري: هي هنا مفسرة؛ لأن التقدير أن يا موسى، وكما في قوله -تعالى-: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ "وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله": أنْ هنا كما ترون دخلت على فعل أمر، هذه هي التي تحتمل التفسير؛ لأن من العلماء من يقول التقدير: أي أن آمنوا بالله.
ومنهم من يقول: إنها هنا تحتمل أن تكون مصدرية، وكما في قوله -تعالى- وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي أنْ هنا كما ترون أنْ المفسرة دخلت على فعل أمر، كما في قوله -تعالى-: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا هنا -أيضًا- هذه المفسرة دخلت على فعل أمر؛ لأنها كلها يصح -ولو على بُعد- أن تكون مقدرة أو مؤولة بأيْ: أي سبِّحوا.
أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ هنا -أيضًا- أنْ جاء بعدها فعل الأمر، وكما في قوله -تعالى-: فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا .
هذه أمثلة وشواهد على مجيء فعل الأمر بعدها، وهو الكثير جدًا في القرآن وهي آيات كثيرة.
هنا آيات أخرى: كما في قوله -تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي أيضًا فعل أمر وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا فعل أمر.
نأتي إلى الأمثلة التي دخلت فيها على فعل مضارع مسبوق بـلا الناهية كما في قوله -تعالى-: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا … ألا تتخذوا: وهنا بعض العلماء يقولون: تفسيرية أو مفسرة؛ لأن التقدير: أي: لا تتخذوا من دوني وكيلا، وكما في قوله -تعالى-: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ألا تعلوا عليّ، وكما في قوله -تعالى-: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا إلى آخر الآيات.
فإن الحاصل أن المفسرة يقل أن يليها الفعل المضارع، فإن وليها الفعل المضارع فإنها حينئذ -إن لم يصح أن يدخل عليها حرف الجر وارتفع الفعل المضارع بعدها- فهي تفسيرية ومفسرة، وإلا فهي الناصبة للفعل المضارع، لكن المفسرة يقل أن تدخل على الفعل المضارع، وأكثر ما تدخل على الفعل الأمر، أو الفعل المضارع المجزوم بـلا الناهية بحيث لا يظهر العمل ولا تكون عاملة..
هذا بالنسبة للمفسرة. ماذا بقي من أنواع أنْ بقي منها النوع المحتمل لأن تكون ناصبة للفعل المضارع أو مخففة من الثقيلة.
أولا- من علامات المخففة من الثقيلة أن تقع بعد فعل يدل على العلم، كما في قوله -تعالى-: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وكما في قوله -تعالى-: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ على أن الرؤية هنا رؤية علمية.
وكما في قولك: علمت أنْ قد يقوم زيد، وكما في قوله -تعالى- أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا هذه الأمثلة لماذا جيء بها؟ جيء بها ليبين أن المخففة لا بد أن يفصل بينها وبين فعلها، إما بالسين: أن سيكون، أو بـلا: ألا يرجعوا، أو بـقد: أن قد يقوم، أو بـلو: أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا .
فالمخففة إذًا هي التي تقع بعد فعل يدل على العلم، فإن وقعت بعد فعل يدل على الظن فإنها في هذه الصورة تحتمل الوجهين، يصح أن تكون مخففة، ويصح أن تكون ناصبة للفعل المضارع.
ولذلك فإن أكثر الآيات التي جاءت بهذا الشكل قرئت بقراءتين، قرئت بالرفع … قرئ الفعل المضارع الذي بعد أن بالرفع على أنها مخففة وقرئ بالنصب على أنها ناصبة للفعل المضارع، ومن ذلك قوله -تعالى-: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ حسِبَ: من أخوات ظن، فإذا جاء بعد أن فعل يدل على الظن وليس يدل على العلم واليقين صارت أن صالحة لأن تكون مخففة من الثقيلة، ولأن تكون ناصبة للفعل المضارع.
ولذلك هذه الآية وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قرئت بقراءتين، قرئت: أنْ لا تكونُ؛ برفع الفعل على أنها مخففة من الثقيلة، وقرئت: أنْ لا تكونَ بنصب الفعل على أنها الناصبة للفعل المضارع.
وكما في قوله -تعالى-: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا هذه -أيضًا- كذلك.
أما الناصبة للفعل المضارع فكما ذكرت لكم علاماتها: أن تكون مصدرية، وأن ينتصب الفعل المضارع بعدها، وأن يكون الفعل الذي تتعين فيه المصدرية وأن يكون الفعل المتقدم عليها ليس بفعل عِلْمٍ ولا ظنٍّ، يعني: فعلا ليس فيه دلالة على العلم وليس فيه دلالة على الظن، وإنما هو فعل آخر فيه، أي دلالة كما في قوله -تعالى-: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي وكما في قولك: أريد منك أن تحضر، أو أن تسافر، أو نحو ذلك.
إذًا أنْ الناصبة للفعل المضارع هذه هي أخواتها التي يمكن أن تلتبس بها وهي المفسرة الزائدة والمخففة من الثقيلة والمحتملة للأمرين، والخامسة هي الناصبة للفعل المضارع.
ننتقل إلى الفئة الثانية، وهي فئة الحروف التي تنصب بواسطة أنْ المضمرة جوازًا، أنْ متى تضمر جوازًا؟.
أنْ في الواقع تضمر جوازًا في صورتين: الصورة الأولى: حينما تقع بعد لام الجر … لام الجر هذه … نقول لام الجر لماذا؟ لكي تشمل لام التعليل ولكي تشمل -أيضا- اللام التي تسمى للعاقبة أو الصيرورة، هي في الواقع يمكن أن يطلق عليها بأنها لام تعليل؛ لأن ما بعدها ليس علة حقيقية مقصودة لما قبلها سميت بـلام العاقبة أو الصيرورة.
لام العاقبة أو الصيرورة يمثلون لها في القرآن بآية مشهورة، وهي قوله -تعالى … هل منكم أحد يعرفها … اللام نعم-: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا الآن الذي يبدو منها أنها لام التعليل.
لكن إذا نظرت في الواقع: هل هم أخذوه ليكون لهم عدوا! ليست علة أخذهم له ليكون لهم عدوا، وإنما أخذوه ليكون لهم ابنًا بارًا نافعًا عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا .
وهم أخذوه ليكون ولدًا نافعًا، ولكن الذي آل إليه الأمر وصار إليه الأمر بإذن الله وإرادته أنه صار لهم عدوا، فهذه اللام بعضهم يقول: إنها لام التعليل، وبعضهم يقول: من حيث المعنى لا نسميها لام التعليل؛ لأنه في الواقع هو تحول لشيء ليس العلة التي أخذوه من أجلها، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا .
فهذه تسمي لام العاقبة أو الصيرورة، أي: أن العاقبة التي انتهي إليها الأمر وصار إليها هي أنه صار عدوًا، لكن العلة التي أخذوه من أجلها هي ليتخذوه ولدًا ولكي ينفعهم، فـلام الجر تشمل لام التعليل، وهذه مشهورة، كما في قوله -تعالى-: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ وكما في قوله -تعالى-: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ فاللام هنا هي لام التعليل.
ويقولون: إن الفعل المضارع: ليغفر ولتبين، منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام التعليل هذا التعبير الدقيق.
فيه تعبير فيه تسامح يجيزه بعض العلماء: أن تقول: إنَّ يغفر وتبين فعل مضارع منصوب بـلام التعليل وتكتفي بهذا، فـأنْ هنا مضمرة بعد لام التعليل أو بعد لام الجر، سواء كانت للتعليل كما في قوله -تعالى-: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ .
أو كانت للعاقبة والصيرورة كما في قوله -تعالى-: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا .
أو كانت -أيضًا- زائدة، أو كانت لام الجر هذه زائدة كما في قوله -تعالى-: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ؛ لأن التقدير: إنما يريد الله أن يُذهبَ. فاللام هنا ليست للتعليل، وإنما هي من حيث اللفظ زائدة، لكنها من حيث المعنى جيء بها لتؤدي المعنى لا يتم أداؤه بدونه.
إذًا الحاصل أنَّ أنْ مضمرة. .. أنْ تنصب وهي مضمرة جوازًا بعد لام الجر، لام الجر هذه تشمل: لام التعليل ولام العاقبة والصيرورة واللام الزائدة، هذا الوجه الأول من وجوب إضمار أنْ.
الوجه الثاني من وجوه إضمارها أنها تُضمر حينما تقع بعد عاطِفٍ.
إذا وقعت أنْ بعد عاطف مسبوق باسم خالص عن التقدير بالفعل. إذا وقعت أنْ بعد عاطف -أي حرف عطف- حرف العطف هذا مسبوق باسم ليس مؤولاً بالفعل، يعني: ليس فعل ولا صفة مشبه، ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول. .. من الأسماء المؤولة بالفعل، وإنما هو ينبغي أن يكون مصدرا، أو اسما غير مصدر. .. إذا وقعت بعد عاطف مسبوق باسم خالص من التقدير بالفعل.
الآن سنعدد هذه العواطف الأربعة التي إذا وقعت أنْ بعد واحد منها فإنها تُضمر جوازًا، ويُنصب الفعل المضارع الواقع بعدها، ويكون منصوبًا إما بأن مضمرة جوازًا كما ينبغي أن تقول، أو أن تقول: منصوب بهذا الحرف الذي سبقه.
الحروف هي. .. الحروف العاطفة هي أربعة، هي التي تقع بعدها أن فتضمر جوازًا، وينصب الفعل المضارع: أو، والواو، وثم، والفاء
نمثل لكل واحد منها: أو: كما في قوله -تعالى-: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أو يرسلَ هنا محل الشاهد: الفعل المضارع يرسل مرفوع أو منصوب؟.
منصوب. ما الذي نصبه؟
عندنا أو حرف … نقول: إنه منصوب بـأنْ مضمرة جوازًا بعد أو. هل حصل فيه الشرط المشترط أو لا؟ حصل فيه فـأو هذه وقعت بعد اسم ليس في تأويل الفعل، وهو كلمة وحيًا: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فعطف الفعل أو يرسل على كلمة وحيًا وهي اسم ليس في تأويل الفعل، فتحقق الشرط حينئذ فتقول: يرسل فعل مضارع منصوب بـأنْ مضمرة جوازًا بعد أو؛ لأن أو هذه عاطفة سُبقت باسم ليس في تقدير الفعل فعطفت عليه.
مثال الواو: قول الشاعر … أو الشاعرة، هذه الشاعرة مشهورة … ميسون بنت بهدل، قيل: إنها زوجة لمعاوية بن أبي سفيان، وأنه أخذها من أهلها من البادية، وجاء بها إلى المدينة، ولم يطب لها العيش في المدينة، فقالت قصيدة تتحسر فيها على حياة البادية، فلما سمعها أرسلها إلى أهلها. الشاهد معنا هو البيت الذي تقول فيه:
وَلُبْسَ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي
أَحَبُّ إليَّ مِن لُبْسِ الشُّفُوفِ
تقول: أنا ألبس عباءة خشنة، وأنا عند أهلي، وتقر عيني أحب إليَّ من لبس المدن الذي هو الملابس الشفافة الناعمة الحريرية.
الشاهد في قولها: ولُبْسُ عبَاءَةٍ وتَقَرَّ. .. وتَقَرَّ: الفعل المضارع تقرَّ هنا الآن منصوب أو مرفوع؟ منصوب، ما الذي نصبه؟.
منصوب بـأن مضمرة جوازًا بعد واو العطف وجاز ذلك؛ لأن الواو هنا عطفت الفعل على اسم متقدم خالص ليس في تأويل الفعل، وهو المصدر لُبْس. .. ولُبْسُ عبَاءَةٍ وتَقرَّ عَيْنِي.
الحرف الثالث هو: ثم كما في قول الشاعر:
إنِّي وقَتْلِي سُلَيْكًا ثُمَّ أَعْقِلَهُ
كالثَّوْرِ يُضْرَبُ لمَّا عَافَتْ البَقَر
إنِّي وقَتْلِي سُلَيْكًا ثُمَّ أعقلَه: ثم هنا دخلت على الفعل المضارع وهو أعقلَه فتحول من الرفع إلى النصب، فصار: ثم أعقلَه. فتقول في إعرابه: أعقلَه: فعل مضارع منصوب بـأنْ مضمرة جوازًا بعد ثم؛ لأنه صار معطوفًا بـثم على اسم متقدم ليس في تأويل الفعل، وهو المصدر قوله: قَتْلِي. .. إني وقتلي سليكًا ثُمّ أعقِلَه.
ما معنى البيت؟ معنى البيت يقول: هذا الرجل قتل شخصا اسمه سُلَيْك، ثم ترتب عليه أن دفع الدية أو صار … يعني تحمّل العقْل له وهو ديته، فقال: إني وقتلي سليكًا … الآن سأقتله لثأر أو ما إلى ذلك، ثم أنا الذي أتحمل ديته كالثور يضرب لمّا عافَت البقر … إذا عافت البقر فإنه يضرب الثور مع أن التي عافت هي البقر، فهو يبدو لأنه هو السيد هو الذي تحمّل العقل الذي يُسمى الدية. .. والذي هو الدية.
الرابع هو: حرف الفاء، مثل قول الشاعر:
لـولا تَـوَقُّعُ مُعْتَرٍّ فَأُرْضِيَهُ
ما كُنْتُ أُوثِرُ أَتْرَابًا على تَرَبِ
لولا تَوَقُّع مُعْتَرٍّ فأُرْضِيَهُ: تَوَقُّع معروف، والمُعْتَرّ: هو. .. ما معنى المُعْتَر؟ هنا وفي هذه الآية: القانع. والمُعتر: نعم المحتاج المعوز. مُعْتَرٍّ فأُرْضِيَه: يقول: لولا أنني أتوقع أن أقوم بخدمات معينة أن يأتي هذا فأعطيه، وأن يأتي هذا فأعطيه، وأن يأتي هذا فأعطيه، لما كنت أوثر هذا الشيء على هذا الشيء، لكني أتوقع أن أكون منتدبا لمثل هذه الفضائل ومثل هذه ا