[b]جواسيس إسرائيليين ...!
بسم الله الرحمن الرحيم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعد الجاسوسية مهنة من أقدم المهن التي مارسها الإنسان داخل مجتمعات البشرية المنظمة منذ فجر الخليقة ، وقد مثلت ممارستها بالنسبة له ضرورة ملحة تدفعه إليها غريزته الفطرية للحصول على المعرفة ومحاولة استقراء المجهول وكشف أسراره التي قد تشكل خطراً يترصد به في المستقبل ، ولذلك تنوعت طرق التجسس ووسائله بدءاً من الاعتماد على الحواس المجردة ، والحيل البدائية ، والتقديرات التخمينية ، والانتهاء بالثورة التكنولوجية في ميدان الاتصالات والمعلومات.
وعلى مر العصور ظهر ملايين من الجواسيس ، لكن قلة منهم هم الذين استطاعوا أن يحفروا أسماءهم في ذاكرة التاريخ ، بما تمتعوا من سمات شخصية فريدة أهلتهم لأن يلعبوا أدواراً بالغة التأثير في حياة العديد من الأمم والشعوب.
ومنهم:
إيلي كوهين ، الياهو بن شاؤول كوهين.
يهودي ولد بالإسكندرية / مصر التي هاجر إليها أحد أجداده سنة 1924
عمل جاسوسا لإسرائيل في سوريا ، إكتشف أمره وأعدم عام 1965
انضم كوهين عام 1944 إلى " منظمة الشباب اليهودي الصهيوني " في الإسكندرية وبدأ متحمساً للسياسة الصهيونية تجاه البلاد العربية.
وبعد حرب 1948 ، أخذ يدعو مع غيره من أعضاء المنظمة لهجرة اليهود المصريين إلى فلسطين ، وبالفعل ، في عام 1949 هاجر أبواه وثلاثة من أشقائه إلى إسرائيل بينما تخلّف هو في الإسكندرية.
وقبل أن يهاجر إلى إسرائيل:
عمل تحت قيادة " ابراهام دار " وهو أحد كبار الجواسيس الإسرائيليين الذي وصل إلى مصر ليباشر دوره في التجسس ومساعدة اليهود علي الهجرة وتجنيد العملاء ، واتخذ الجاسوس اسم " جون دارلينج " ، وشكّل شبكةً للمخابرات الإسرائيلية بمصر نفذت سلسلة من التفجيرات ببعض المنشأت الأمريكية في القاهرة والإسكندرية بهدف إفساد العلاقة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي عام 1954 ، تم إلقاء القبض على أفراد الشبكة في فضيحة كبرى عرفت حينها " بفضيحة لافون " ، وبعد انتهاء عمليات التحقيق ، كان أيلي كوهين قد تمكن من إقناع المحققين ببراءة صفحته إلى أن خرج من مصر عام 1955 ، حيث التحق هناك بالوحدة رقم 131 بجهاز الموساد ، ثم أعيد إلى مصر ولكنه كان تحت عيون المخابرات المصرية التي لم تنس ماضيه فاعتقلته مع بدء العدوان الثلاثي علي مصر في أكتوبر 1956
بعد الإفراج عنه:
هاجر إلى إسرائيل عام 1957 ، حيث استقر به المقام محاسباً في بعض الشركات وانقطعت صلته مع الموساد لفترة من الوقت، ولكنها استؤنفت عندما طرد من عمله وعمل لفترة كمترجم في وزارة الدفاع الإسرائيلية ولما ضاق به الحال استقال وتزوج من يهودية من أصل عراقي عام 1959.
وقد رأت المخابرات الإسرائيلية:
في كوهين مشروع جاسوس جيد فتم إعداده في البداية لكي يعمل في مصر، ولكن الخطة ما لبثت أن عدلت ، ورأى الموساد أن أنسب مجال لنشاطه التجسسي هو دمشق.
وبدأ الإعداد الدقيق:
لكي يقوم بدوره الجديد ، ولم تكن هناك صعوبة في تدريبه علي التكلم باللهجة السورية ، لأنه كان يجيد العربية بحكم نشأته في الإسكندرية وكان طالباً في " جامعة الملك فاروق " وترك الدراسة فيها لاحقاً.
رتبت له المخابرات الإسرائيلية:
قصة ملفقة يبدو بها سورياً مسلماً يحمل اسم " كامل أمين ثابت "، هاجر وعائلته إلى لاسكندرية ثم سافر عمه إلى الأرجنتين عام 1946 ، حيث لحق به كامل وعائلته عام 1947.
وفي عام 1952 ، توفي والده في الأرجنتين بالسكتة القلبية كما توفيت والدته بعد ستة أشهر وبقى كامل وحده هناك يعمل في تجارة الأقمشة.
تم تدريبه على:
كيفية استخدام أجهزة الإرسال والاستقبال اللاسلكي والكتابة بالحبر السري ، كما راح يدرس في الوقت نفسه كل أخبار سوريا ويحفظ أسماء رجالها السياسيين والبارزين في عالم الاقتصاد والتجارة ، مع تعليمه القرآن وتعاليم الدين الإسلامي.
وفي 3 فبراير 1961:
غادر كوهين إسرائيل إلى زيورخ ، ومنها حجز تذكرة سفر إلى العاصمة التشيلية " سانتاغو " باسم " كامل أمين ثابت "، ولكنه تخلف في بوينس أيريس حيث كانت هناك تسهيلات معدة سلفا لكي يدخل الأرجنتين بدون تدقيق في شخصيته الجديدة.
وفي الأرجنتين:
استقبله عميل إسرائيلي يحمل اسم " أبراهام "حيث نصحه بتعلم اللغة الأسبانية حتى لا يفتضح أمره ، وبالفعل تعلم كوهين اللغة الأسبانية ، وكان أبراهام يمده بالمال ويطلعه على كل ما يجب أن يعرفه لكي ينجح في مهمته.
وبمساعدة بعض العملاء:
تم تعيين كوهين في شركة للنقل وظل كوهين لمدة تقترب من العام يبني وجوده في العاصمة الأرجنتينية كرجل أعمال سوري ناجح فكون لنفسه هوية لا يرقى إليها الشك ، واكتسب وضعا متميزاً لدي الجالية العربية في الأرجنتين ، باعتباره رجلاً وطنياً شديد الحماس لبلده وأصبح شخصية مرموقة.
ولقد تقرر أن تبدأ مهمة كوهين في الأرجنتين ، ويرجع ذلك الى سببين:
أولهما:
أن الملحق العسكري السوري هناك هو اللواء أمين الحافظ ، وكان معروفاً عنه معاداته للوحدة مع مصر ولنظام جمال عبد الناصر ، ومن ثم فلديه الدوافع كافة لتنظيم انقلاب يقوم به أنصاره داخل الجيش السوري.
وثانيا:
كي تعد لكوهين قصة محبوكة تؤهله لأن يعيش بها بين القوم الذين سيعمل بينهم حينما يذهب إلى سورية.
قال له ضابط المخابرات الإسرائيلي:
" إليك الآن تاريخ حياتك الذي ستعيش به في الأرجنتين ، إنك ولدت في بيروت ، وعندما بلغت الثالثة من عمرك انتقلت إلى الإسكندرية مع عائلتك ، واسمك من الآن فصاعدا " كامل أمين ثابت " ، واسم والدتك سعيدة إبراهيم ، وعائلتك سورية ، وهجرتكم من الإسكندرية كانت بعد سنة من وفاة شقيقتك ، ووالدك كان تاجر نسيج ، وفي عام 1946 هاجر عمك إلى الأرجنتين ، وبعد وقت قصير كتب إلى والدك ينصحه باللحاق به ، وفي عام 1947 وصلت إلى الأرجنتين مع عائلتك ، حيث دخل والدك وعمك في شراكة مع رجل ثالث في تجارة النسيج في بيونس أيرس ، لكن الأمور لم تمض كما يجب ، وأفلس الشركاء ، وفي عام 1956 توفي والدك ولحقت به والدتك بعد ستة أشهر ، وذهبت أنت لتعيش مع عمك ثم عملت فترة في وكالة سياحة ، ثم انفردت بالعمل وحدك ، وحققت نجاحا كبيرا ".
أنهى ضابط المخابرات الإسرائيلية حديثه لكوهين قائلا:
" الآن تستطيع أن تذهب وسنتولى نحن بالنيابة عنك الإجراءات الرسمية كافة ، وعليك أن تتصل بنا غدا ".
وعندما هَّم بترك الغرفة ناداه الضابط فجأة:
" كامل " ، فالتفت كوهين نحوه بسرعة.
فقال له الضابط:
" حسنا جدا ، يسرني أن أراك وقد بدأت تفكر كعربي ، كل ما تحتاج إليه الآن لتصبح مقنعًا هو شارب كبير ".
بدأت شهرة كامل أمين ثابت تنتشر بين أفراد الجالية السورية ، باعتباره من أشهر العزاب الظرفاء ، خصوصاً بين الجنس الآخر ، ثم بدأ يبذل مجهودا مكثفا للتعرف الى الشخصيات البارزة ، فبدأ يتردد على النادي العربي ثلاث مرات أسبوعيا ، وكانت ثقافته وكراهيته للصهاينة وإعلاناته المتكررة في جريدة " العالم العربي " التي يصدرها أبناء الجالية ، سببًا في أن يستحوذ على إعجاب " عبداللطيف حسان " صاحب الجريدة الذي أصبح صديقه ، ومن ثم حصل له على دعوة لحضور حفل استقبال رسمي تقيمه السفارة السورية ، وفي الوقت نفسه أيضا ستحتفل زوجة الملحق التجاري بعيد ميلادها.
وقال له حسان:
" إنك اثرت اهتمام زوجة الملحق التجاري ، قالت لي إنك شخصية مؤثرة إلى حد كبير ".
لكن كامل قال له:
إن من يلفت انتباهه حقا هو ذلك الضابط هناك ، الذي يبدو فعلا شخصية مؤثرة وفي أوائل الأربعينات من عمره.
فصحبه حسان إلى الضابط قائلا:
" سيدي اللواء ..... إسمح لي أن أقدم لكم رجلا وطنيا سورياً بكل ما في الكلمة من معنى ".
ثم نظر نحو كامل قائلا:
" هذا هو اللواء أمين الحافظ الملحق العسكري للسفارة ".
وخلال المآدب الفاخرة التي اعتاد كوهين - أو كامل أمين ثابت - إقامتها في كل مناسبة وغير مناسبة ، ليكون الدبلوماسيون السوريون علي رأس الضيوف ، لم يكن يخفي حنينه إلى وطنه سوريا ، ورغبته في زيارة دمشق.
لذلك:
لم يكن غريباً أن يرحل اليها بعد أن وصلته الإشارة من المخابرات الإسرائيلية ووصل اليها بالفعل في يناير 1962 ، حاملا معه الآت دقيقة للتجسس ، ومزودا بعدد من التوصيات الرسمية وغير الرسمية لأكبر عدد من الشخصيات المهمة في سوريا ، مع الإشادة بنوع خاص إلي الروح الوطنية العالية التي يتميز بها ، والتي تستحق أن يكون محل ترحيب واهتمام من المسؤولين في سوريا.
وبالطبع ، لم يفت كوهين أن يمر علي تل أبيب قبل وصوله إلي دمشق ، ولكن ذلك تطلب منه القيام بدورة واسعة بين عواصم أوروبا قبل أن ينزل في مطار دمشق.
أعلن كوهين أنه قرر تصفية كل أعماله العالقة في الأرجنتين ليظل في دمشق مدعياً حب الوطن.
وبعد أقل من شهرين من استقراره في دمشق:
تلقت أجهزة الاستقبال في الموساد أولى رسائله التجسسية التي لم تنقطع علي مدى ما يقرب من ثلاث سنوات ، بمعدل رسالتين علي الأقل كل أسبوع.
وفي الشهور الأولى تمكن كوهين أو كامل من إقامة شبكة واسعة من العلاقات المهمة مع ضباط الجيش والمسؤولين العسكريين.
وكان من المعتاد:
أن يزور أصدقاءه في مقار عملهم ، وكانوا يتحدثون معه بحرية عن تكتيكاتهم في حالة نشوب الحرب مع إسرائيل ويجيبون على أي سؤال فني يتعلق بطائرات الميج أو السوخوي ، أو الغواصات التي وصلت حديثا من " الاتحاد السوفيتي " ، أو الفرق بين الدبابة ت- 54 و ... ت- 55 وغيرها من أمور كانت محل اهتمامه كجاسوس.
وكانت هذه المعلومات تصل أولا بأول إلي إسرائيل ومعها قوائم بأسماء وتحركات الضباط السوريين بين مختلف المواقع والوحدات.
وفي أيلول/ سبتمبر 1962:
صحبه أحد أصدقائه في جولة داخل التحصينات الدفاعية بمرتفعات الجولان ، وقد تمكن من تصوير جميع التحصينات بواسطة آلة تصوير دقيقة مثبتة في ساعة يده أنتجتها المخابرات الإسرائيلية والأمريكية.
ومع أن صور هذه المواقع سبق أن تزودت بها إسرائيل عن طريق وسائل الاستطلاع الجوي الأمريكية ، إلا أن مطابقتها مع رسائل كوهين كانت لها أهمية خاصة سواء من حيث تأكيد صحتها ، أو من حيث الثقة بمدى قدرات الجاسوس الإسرائيلي.
وفي عام 1964:
زود كوهين قادته في تل أبيب بتفصيلات وافية للخطط الدفاعية السورية في منطقة القنيطرة ، وفي تقرير آخر ، أبلغهم بوصول صفقة دبابات روسية من طراز ت- 54 ، وأماكن توزيعها ، وكذلك تفاصيل الخطة السورية التي أعدت بمعرفة الخبراء الروس لاجتياح الجزء الشمالي من إسرائيل في حالة نشوب الحرب.
وازداد نجاح كوهين خاصة مع إغداقه الهدايا على مسؤولي حزب البعث.
في عام 1965:
وبعد 4 سنوات من العمل في دمشق ، تم الكشف عن كوهين عندما كانت تمر أمام بيته سيارة رصد الاتصالات الخارجية التابعة للأمن السوري ، وعندما ضبطت أن رسالة " مورس " وجهت من المبنى الذي يسكن فيه حوصر المبنى على الفور ، وقام رجال الأمن بالتحقيق مع السكان ولم يجدوا أحداً مشبوهاً فيه ، ولم يجدوا من يشكّوا فيه في المبنى ، إلا أنهم عادوا واعتقلوه بعد مراقبة البث الصادر من الشقة.
وقبض على كوهين وأعدم في ساحة المرجة وسط دمشق في 18 أيار/ مايو 1965.
تؤكد تقارير المخابرات المصرية:
أن اكتشاف الجاسوس الإسرائيلى إيلى كوهين في سوريا عام 1965 كان بواسطة العميل المصري في إسرائيل " رفعت الجمال أو رأفت الهجان " ، حيث رأى صورة لة مع يهودية فسألها من هذا قالت زوج اختى ، بعدها طارت رسالة منه إلى القاهرة ومنها إلى دمشق تكشف حقيقة هذا الجاسوس.
وقد ذكرها " رفعت الجمال " كما يلي:
شاهدته مره في سهرة عائلية حضرها مسئولون في الموساد وعرفوني به أنه رجل أعمال اسرائيلي في أمريكا ويغدق على اسرائيل بالتبرعات المالية ، ولم يكن هناك أى مجال للشك في الصديق اليهودي الغني ، وكنت على علاقة صداقة مع طبيبة شابه من أصل مغربي اسمها ( ليلى ) ، وفي زيارة لها بمنزلها شاهدت صورة صديقنا اليهودي الغني مع امرأة جميلة وطفلين فسألتها من هذا ؟
قالت:
إنه ايلي كوهين زوج شقيقتي نادية ، وهو باحث في وزارة الدفاع وموفد للعمل في بعض السفارات الإسرائيلية في الخارج.
لم تغب المعلومة عن ذهني كما أنها لم تكن على قدر كبير من الأهمية العاجلة ، وفي أكتوبر عام 1964 كنت في رحلة عمل للاتفاق على أفواج سياحية في روما وفق تعليمات المخابرات المصرية.
وفي الشركة السياحية وجدت بعض المجلات والصحف ووقعت عيناي على صورة ايلي كوهين فقرأت المكتوب أسفل الصورة:
( الفريق أول على عامر والوفد المرافق له بصحبة القادة العسكريين في سوريا والعضو القيادي لحزب البعث العربي الإشتراكي كامل أمين ثابت ).
وكان كامل هذا هو ايلي كوهين الذي سهرت معه في اسرائيل وتجمعت الخيوط في عقلي فحصلت على نسخة من هذه الجريدة اللبنانية من محل بيع الصحف بالفندق.
وفي المساء التقيت مع ( قلب الأسد ) محمد نسيم رجل المهام الصعبة في المخابرات المصرية وسألته:
هل يسمح لي أن أعمل خارج نطاق إسرائيل ؟
فنظر لي بعيون ثاقبة وقال:
ماذا ؟
قلت:
خارج اسرائيل.
قال:
أوضح.
قلت:
كامل أمين ثابت أحد قيادات حزب البعث السوري هو إيلي كوهين الإسرائيلي ، مزروع في سوريا وأخشى أن يتولى هناك منصبا كبيرا.
قال:
ما هي أدلتك ؟
قلت:
هذه الصورة ولقائي معه في تل أبيب ، ثم إن صديقة لي اعترفت أنه يعمل في جيش الدفاع.
ابتسم قلب الأسد وأوهمني أنه يعرف هذه المعلومة فأصبت بإحباط شديد.
ثم اقترب من النافذة وعاد فجأة واقترب مني وقال:
لو صدقت توقعاتك يا رفعت لسجلنا هذا بإسمك ضمن الأعمال النادرة في ملفات المخابرات المصرية.
وعقب هذا اللقاء:
طار رجال المخابرات المصرية شرقا وغربا للتأكد من المعلومة وفي مكتب مدير المخابرات في ذلك الوقت السيد صلاح نصر تجمعت الحقائق ، وقابل مدير المخابرات الرئيس جمال عبد الناصر ، ثم طار في نفس الليلة بطائرة خاصة الى دمشق حاملا ملفا ضخما وخاصا الى الرئيس السوري أمين حافظ.
وتم القبض على ايلي كوهين وسط دهشة الجميع وأعدم هناك في 18 مايو 1965.