عندما استيقظ (و.أ) ذلك الصباح الخريفى، فى حجرة البنسيون العتيق، بالطابق السابع، الكائن فى وسط البلد،
اعتقد أنه داخل مستشفى، انفتح الجفنان على سحابة بيضاء، كتلة من القطن المتحرك تسد فراغ زجاج البلكونة
المواجِهة تمامًا للسرير الوحيد فى الفراغ البارد، كانت تحيطه جدران عارية إلا من صورة سريالية مائلة:
سلحفاة خضراء ضخمة، تنهش مخًّا بشريًّا خرج من جمجمة شخص يبتسم.
اعتقد للوهلة الأولى أنه لم يستيقظ بعد، أغلق عينيه وفتحهما بسرعة، تغيّر المشهد الثابت قليلًا، كانت السحابة
ترتفع إلى أعلى فى موجات متتالية تاركة ثغرات تظهر من خلالها سحائب نوفمبرية عادية، الأبيض غير الأبيض،
الكتلة المتحركة بياضها مستفز، غير إنسانى، ثلج على قطن على بشرة لم تر أبدًا نور الشمس، اعتدل (و.أ)
تاركًا زاوية الرؤية المنخفضة بين قدمين احتفظت إحداهما بجوربها، وظلت الثانية تتحدى الصقيع.
فى نفس اليوم الذى استأجر فيه الحجرة، صمّم على تغيير مكان السرير، قرر أن يجعله فى مواجهة البلكونة
ليستيقظ على ضوء النهار، افتقد البحر فى الإسكندرية، هرب من فشل مُزمن، لا بديل سوى السماء، استبعد لوحة صغيرة
متآكلة البرواز تنتمى إلى زمن الكانفاة، وأخرج اللوحة التى لا تفارقه،
وجدها مناسبة لكتابة روايته التى لن يقرأها أحد، كما حدث مع روايتيه السابقتين.
كانت ساعة يده الملقاة بغير اهتمام فوق الكومودينو تشير إلى التاسعة والنصف، بجانبها أوراق بيضاء متناثرة،
على رأس كل واحدة سطر أو اثنان، خطوط حمراء أو زرقاء أو خضراء، عاد بالأمس فى الساعة الثانية
بعد سهرة طويلة على التكعيبة، تحدث فى كل الموضوعات، الفلسفة والدين، الإخوان والسلفيين، صندوق النقد
وعشيقات بيكاسو، مرسى وعادل إمام، عاهرات العشرينيات وثلاثية داريل، منح خمسة جنيهات كاملة لأحد الحواة،
رآه ينام على المسامير، ثم ينفخ النار، تذكر مشهدًا مماثلًا فى طفولته، منح نصف جنيه فقط لشحاذ يبكى،
قال له إنه ممثل ردىء جدا، عليه أن يغير الكاركتر إذا أراد أن يسترزق، لم يتحمس لفكرة إكمال السهرة
فى بار فى عماد الدين، لم يتسع الوقت قبل النوم إلا لأنصاف عبارات مكتوبة بخط متعجل،
استفتاح، تشريفة، فى انتظار شخصيات رواية فى علم الغيب.
عندما وصل (و.أ) إلى زجاج باب البلكونة العملاق، كانت الصورة غامضة قليلًا، فى العمق كانت سحابة القطن الثلجية
قد تحوّلت إلى نقاط بيضاء لها أجنحة تتحرك عشوائيا فى كل الاتجاهات، تصنع دوامات لا نهائية أصابت عينيه بالتعب،
بدت الرؤية مهزوزة مثل شريط سينما انفلت من آلة العرض، وانعكست بقاياه على الشاشة، كانت الصورة
أكثر وضوحًا عندما تأمل حواف البلكونة، تراجع (و.أ) فزعًا وهو يشهد آلاف من الجراد الأبيض،
وقد بدأ يحتل الحواف الحجرية، ويقفز على الزجاج مُحدثًا صوتًا مخيفًا، فى نظرة ثالثة إلى أعلى،
كانت كتلة قطنية جديدة هائلة تسد الثغرات من جديد، تكبر مثل نقطة استحالت محيطًا من زبد.
كابوس بالتأكيد، هز رأسه يمينًا ويسارًا، كأنه يطرد فكرة تأبى أن تغادر شعره المنكوش، تراجع إلى السرير،
ثم اندفع بلا تفكير إلى خارج الغرفة، كانت البنسيون صامتًا وكأن أحدًا لم يستيقظ، نادَى على الخادم،
قبل أن يصل إلى الصالة الواسعة، كان الفراغ البارد ينتقل معه، لا أحد، لا صوت، فتح أربع حجرات يرافقه الذعر،
لا أحد، ملابس على الأسِرّة، بقايا أعقاب سجائر،
زجاجات بيرة فارغة، جرائد الأمس، نصف رغيف كبدة، أحذية متناثرة، وأكواب شاى لم تُغسل.
من شرّاعة باب البنسيون المغلق، وعبر زجاج أبواب البلكونات العالية المقفولة، كان المشهد يتكرر،
الجراد الأبيض يرتطم ثم يرتد فيعود من جديد وكأنه يريد أن يكسر الزجاج، شعر «و.أ» أن البيجامة تتسع على جسده،
أو أنه ينفصل بعيدًا عندها، انفلت الشبشب من رجله فتركه، جلس حافيًا على مقعد حول مائدة طويلة
تتوسط الصالة الواسعة، وأمامه صورة الطفل ذى العيون الباكية، مبتذلة وكريهة.
جراد لا شك فى ذلك، قدماه الطويلتان، ورأسه وأجنحته، حركاته اللا مبالية وكأنه يدخل مكانًا يعرفه،
ويتوقع استقبالًا مستسلمًا، كتلك الأسراب التى قرأ عنها فى الإسكندرية منذ سنوات، سحائب هائلة من الجراد
طولها سبعة كيلومترات، وعرضها خمسة وسبعون مترًا، استيقظوا فوجدوها فى كل مكان، على قبة الجامعة،
وفوق الأهرامات، على زجاج ميكروباصات الجيزة، وفوق ملابس بنات المدارس، خضراء وحمراء، لم تكن يومًا بيضاء.
« ألو.. هل ما زلت فى القاهرة؟ هل تشاهدين ما أراه؟»، صرخت (ل.ص) على الطرف الآخر من هاتفه النقّال العتيق:
«أين أنت؟ هاتفك مغلق منذ أول المصيبة.. طوفان من الجراد الأبيض منذ الرابعة صباحًا.. كابوس..
لا أحد يصدّق ما يراه.. فى التليفزيون كلام فارغ عن مؤامرة إسرائيلية ودور غامض لأمن الدولة والفلول..
الأعجب أن الجراد الأبيض لم يقترب من أى عود أخضر.. يدخل المنازل فقط.. أغلق كل النوافذ جيدًا..
لا نعرف بالضبط ماذا يريدون.. فرق المكافحة فشلت.. المبيدات تزيد الجراد شراسة».
شاعرًا بالوحدة الممتزجة بالغضب والخوف والكراهية، عاد «و.أ» إلى سريره صامتًا،
كان ضجيج ارتطام الجراد يتزايد، جلس مقرفصًا يرتعش، خُيّل إليه أنهم أحدثوا شروخًا فى الزجاج السميك،
أمسك قلمًا أحمر ورسم فى الهواء خطوطًا ودوائر وهمية على خلفية شروخ افتراضية فى الزجاج،
لو اقتحموا الحجرة سيقدم لهم ورقا وأقلامًا ليأكلوها، حانت منه التفاتة إلى الصورة المائلة المُعلّقة،
خُيّل إليه أن السلحفاة تتحرك، تزحف من مكانها مخترقة الإطار، وعلى فمها دماء، سمع صوت فيروز على صورة بحر.
فى صباح اليوم التالى، وفى البنسيون العتيق، بالطابق السابع الكائن فى وسط البلد، كانت الحجرة عارية
إلا من الصقيع، صمتٌ ثقيل، آلاف الجراد الأبيض ينتشر فى كل مكان، على الأرض والجدران،
ويحتلّ سريرًا يتمدد فوقه رجل، فى يده قلم أحمر، وفوق المخدة، جمجمة مكسورة، وبقايا مخ إنسان.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]