[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] د.عماد جاد
مع انتصاف عقد الثمانينيات من القرن الماضى كانت دول أمريكا اللاتينية فى الإجمال ترزح تحت نير الحكم العسكرى
فى غالبيتها، وكانت بعيدة عن الديمقراطية فى معظمها، وكانت تشترك جميعا فى أنها دول متخلفة اقتصاديا،
فرغم الثروات الهائلة التى تزخر بها أراضى قارة أمريكا اللاتينية، فإن الحكم العسكرى الفاشى والمدنى المستبد
أوصل هذه البلاد إلى حالة من الفقر المدقع على نحو أدى إلى انتشار مدن الصفيح فى معظم هذه الدول.
وشهدت دول أمريكا اللاتينية حالة من الفقر وتراكم الديون جعلت دولة أشبه بقارة كالبرازيل تقف على شفا الإفلاس
وتكون مرشحة بقوة لتعلن كدولة مفلسة عاجزة عن سداد أقساط ديونها لمؤسسات التمويل الدولية.
ما ميز دول أمريكا اللاتينية، كان حيوية شعوبها وإخلاص نخبتها والدور التقدمى الذى لعبه رجال دين هناك،
فشعوب أمريكا اللاتينية ظلت تقاوم الحكم الديكتاتورى ولم تتوقف عن المقاومة رغم ارتفاع الثمن، لعب الأدب
دورا مهما فى تثوير وعى الجماهير، استمر النضال بكل أشكاله، وكانت النخبة الثقافية اللاتينية مخلصة لشعوبها
وفيّة لقضايا التحرر الوطنى من نظم الحكم المستبدة. ومن بين أبرز الأدوار التى أسهمت فى تطوير دول أمريكا اللاتينية
والتصدى لنظم الحكم الديكتاتورية فيها، كان دور رجال الدين الكاثوليك الذين طوروا مواقف تقدمية
وصاغوا نظرية ثورية باسم «لاهوت التحرير» تلك النظرية التى سمحت للكنائس هناك
ولرجال الدين بلعب دور مساند للثوار المطالبين بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية،
ساند رجال الدين هناك الحركات الثورية المطالبة بالتغيير والإصلاح، أصروا على لعب هذا الدور الثورى
التقدمى رغم معارضة قيادتهم الدينية فى روما، وبعضهم قبل بالتخلى عن رتبته الدينية، أو قبِل بأن يجرَّد منها
من أجل مواصلة التصدى للنظام الظالم، قبلوا بلعب دور ثورى تقدمى للأخذ بيد الفقراء والمحتاجين،
طبقوا أسمى قيم دينية تتحدث عن ضرورة مساعدة كل فقير محتاج، عابر سبيل، أرملة ويتيم. ساندت دول أمريكا اللاتينية
بعضها بعضًا، فقد أقام الثوار شبكة واسعة من العلاقات عابرة الحدود الجغرافية، بدؤوا بالتصدى للهيمنة الأمريكية
على المنطقة، تخلصلوا من طابع «جمهوريات الموز» الذى وضعت فيه واشنطن بعض دول أمريكا اللاتينية،
تحديدًا الوسطى منها، والصغيرة فى الجنوبية. رفعوا من وعى شعوبهم ولم يعايروها بأن وعيها منخفض،
بدؤوا عملية نضال وطنى من أجل بلادهم، لا من أجل جماعة أو مجموعة، استخدموا الدين كقوة تثوير
لا كغطاء لممارسة سلطة أو جنى الأصوات فى الانتخابات. نجحوا فى تفعيل نظرية الدومينو الأمريكية،
لكن فى الاتجاه الذى يريدون، فإذا كانت واشنطن قد صاغت هذه النظرية من أجل تثبيت الحكم الرأسمالى
فى دول غرب أوروبا والحيلولة دون سقوط أى بلد فى غرب أوروبا فى يد الشيوعية، على أساس أن سقوط دولة
سيؤدى إلى سقوط باقى الدول وفق تداعى سقوط أوراق الدومينو التى يتم ترتيبها بطريقة معينة، نجح قادة أمريكا اللاتينية
ومعهم نخبة واعية فى مختلف المجالات ورجال دين جعلوا من خدمة الوطن ونصرة فقرائه، تطويره وتنميته
قمة التدين ومنتهى العشق الإلهى، نجحت هذه النخبة فى إسقاط نظم الحكم الديكتاتورية من عسكرية ومدنية
فى أنحاء أمريكا اللاتينية، وتهاوت نظم الحكم الديكتاتورية كتهاوى قطع الدومينو، وعلى أنقاضها ظهرت نظم حكم شعبية،
ديمقراطية، بدأت عملية مصالحة تاريخية وتجاوزت ميراث الماضى الثقيل، لم ترغب فى العيش فى ماضٍ أليم
بقدر ما تطلعت إلى بناء الوطن وإرساء أسس العدالة الوطنية، تبنوا الديمقراطية الاجتماعية منهجا وطريقا للنهوض،
فحققوا قفزات كبرى فى شتى المجالات. سياسيا باتت دول أمريكا اللاتينية فى الإجمال دولا ديمقراطية حديثة،
واقتصاديا بدأت عملية نهضة اقتصادية حقيقية نقلت هذه الدول من حالة الفقر والتخلف إلى أول طريق النمو،
بعضها حقق قفزات كبرى جعلته على شفا دخول منظومة العالم الأول من حيث الناتج القومى، مستوى المعيشة،
التطور التكنولوجى ومؤشرات أخرى عديدة، وهنا تأتى البرازيل على القمة، فبعد أن كانت على شفا الإفلاس
فى منتصف الثمانينيات، باتت اليوم ثامن أكبر اقتصاد فى العالم على مقربة من أن تصبح ضمن بلدان العالم الأول،
بل إن صاحب النهضة الكبرى، الرئيس البرازيلى السابق سيلفا دا لولا، والذى لم يحصل على شهادة دراسية،
تفاخر بأن بلده حقق ما لم تحققه دولة أخرى فى نصف الكرة الغربى، وهو إدخال علاج الأسنان، باهظ التكلفة،
ضمن التأمين الصحى على المواطنين. بالعلم والإيمان بالوطن، ودور تقدمى لرجال الدين حققت أمريكا اللاتينية
معادلة الخروج من عالم التخلف إلى الديمقراطية والتطور،
وتجاربها فى هزيمة التخلف تستحق التأمل والتعلم منها.