محمد بركة (1) فى الواحة البحرية نزلنا من "السوبر جيت" لأجد سائقاً بالجينز والعمامة فى انتظارنا..
الشاب البدوى يقودنا باتجاه "سفارى كامب" مسلحاً بما تيسر من توابل الشقاوة
فى التعامل مع الخواجات على كل ملة ولون... تهتز الجيب شيروكى بعنف بفعل المطبات..
يغمز بعينه..
يضحك ويسألنى:
مراتك يا أستاذ؟
أسكت فيستطرد:
أنا كمان متزوج واحدة من بتوع الاتحاد الأوروبى، تواجهنى بعينها تستفسر عن فحوى الحوار،
هى التى لا تعرف لغتى ولا أعرف لغتها وما بيننا لغة ثالثة وسيطة لا تصمد أمام لهفة الأصابع
أو انعكاس الغروب على قمة جبل الكريستال..
الكريستال معجزة، حجارة تطؤها أقدامنا.
الكريستال حكاية: زلط برخص التراب يتألق فى نور الشمس.
الكريستال هدايا نعبئها مؤقتاً فى "شنطة" بلاستيك لأشخاص لا يعنوننا كثيراً.
السائق والمرشد ينتظران بعيداً عن سفح التل بجوار سيارة (4X4) قديمة، ونحن نصعد طريقاً مرهقاً لذيذاً... أحذيتنا المطاطية تغوص،
والكثبان الناعمة فخاخ رومانسية..
(2) هذه هى "الصحراء البيضاء" إذن!
كوكب درى يضيئه اللون الأبيض للرمال فى عتمة ما بعد الغروب.
توقف محرك السيارة، فهاجم طنين الصمت آذاننا لتبدأ وقائع الأسطورة.
مئات الصخور الضخمة منحوتة على هيئة حيوانات من مرحلة ما قبل التاريخ أو فلاسفة عظام فى لحظة تأمل...
فكرت أن كائنات من الفضاء الخارجى ربما هبطت ذات مساء ووزعت الصخور على السطح الرملى المستوى بهذه الدقة البديعة.
المرشد والسائق ينصبان الخيمة بشكل آلى و"الجروب" الأمريكانى جيران طيبون تتعالى صرخاتهم
ابتهاجاً على بعد نصف كيلو متر، وقد أوقدوا ناراً وتحلقوا حولها.
كنا قد تهنا بعيداً، خلف إحدى الصخور، ندى عالق بشعرها الناعم الأحمر يتكسر على شفاهى.. والليل يتقدم..
(3) أيقظنا فى الصباح الباكر شمس واهنة ورياح باردة حنونة..
كان المرشد قد حمل كشافاً وعثر – للأسف - علينا فلم تتحقق أمنيتها فى أن يغمض العالم عينيه وينسانا قليلاً،
قبل النوم ارتدينا كل ما لدينا من ملابس، ثم دلف كل منا إلى "سليبنج باج" وتراكمت الأغطية فوقنا.
قال لنا المرشد: هكذا ينام أهل السفارى هنا.
فى العراء.
لاخيمة.
بل مجرد مصد للرياح من قماش الفراشة، مثبت على السيارة..
تركنا بعيداً مع صديقه السائق، ولم ينس أن يغمز بعينه قائلاً:
خد راحتك.
وبالطبع أخذت راحتى.
فالرمال سريرنا.
والسماء لحافنا.
وقمر مكسوف يعافينا بالعافية..
كما أن حبيبتى استطاعت أخيراً أن توجد لشفتيها الجميلتين منفذاً لتسألنى
عن مدى خطورة أفعى "الطريشة" التى قرأت عنها فى هذه الصحراء...
(4) بحبهاااا...
كنت أهتف للفضاء الخالى، للصمت الرهيب، للنسيم الذى لم يستنشقه أحد قبلنا
ولن يستنشقه أحد بعدنا، وللصخور التى أكسب النهار حضورها الأسطورى بعداً جديداً.
كنت أهتف لكبرياء قوامها الأوروبى، لليونة عضلاتها وهى تأخذ أصعب الزوايا لتقتنص الرهافة
وتستل الحساسية من تشكيلات الرمل واستدارت الحجر، وهى تمارس عملها كمصورة محترفة.
كنت أهتف للأحمر القانى مغادراً شراييننا لتحل محله قوافل الضوء التى أرسلتها – أخيراً خالتى – الشمس.
وكنت أعدو..
طاقة لا تُحتمل تجتاحنى فأعدو..
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]