تمر مصرنا الغالية بمحنة أمنية ونكبة أخلاقية فى الآونة الأخيرة؛
حيث تفشت ظاهرة الانفلات الأمنى، ولم تعد تخلو الصحف اليومية والبرامج الإعلامية
من ذكر حوادث الخطف والقتل والسرقة. والأغرب من ذلك هو السقوط الأخلاقى فى مستوى الجريمة؛
حيث صارت جماعية بين العوائل المتقاربة، أو بين القرى المتجاورة .
فقد قرأت فى بعض الصحف اليومية صباح الإثنين 30 يوليو الماضى عن نشوب نزاع قتالى
بالأعيرة النارية بين عائلتين فى مدينة طنطا العريقة راح ضحيته عدد من القتلى والجرحى،
وعاشت المدينة بتعبير الصحيفة «حرب شوارع». وفى عصر اليوم نفسه
وأثناء إلقائى برنامج «مجلس الصائمين» فى الفضائية المصرية تلقيت اتصالاً هاتفياً
من أحد أبناء القرى بمحافظة المنوفية يستغيث من الحرب النارية التى لا تزال تدور بين قريته
وبعض القرى المجاورة. وفى مساء اليوم ذاته وقبل مشاركتى فى برنامج «القاهرة اليوم»
للفقرة الدينية استمعت إلى المداخلة التليفونية من أحد الآباء المحروقين على خطف طفله من الشارع،
ومع أنه استجاب بدفع الفدية المطلوبة فإن المختطفين قتلوه وألقوا به فى ترعة الإسماعيلية،
وهو يستغيث بالمسئولين للحصول على جثة طفله المفقودة منذ أسبوعين.
وتساءلت: أين نواب الشعب الذين تسابقوا فى رفع الشعارات الإسلامية البراقة،
والبوسترات التى تحمل صور كثير من المشايخ والدعاة الإسلاميين للحصول على أصوات البسطاء
وأبناء مصر الطيبين حتى أخذوا أصواتهم فى معركة سماها بعضهم غزوة الصناديق؟
وبعد أن حصدوا الأصوات وامتلكوا مقاعد مجلسى الشعب والشورى وصاروا أصحاب حصانة
ووجاهة اجتماعية -حتى ولو قلنا بحل المجلسين فهم لا يزالون النواب إلى أن تأتى انتخابات أخرى
- نسوا وعودهم للشعب بأن يحموا عرضه، وأن يصونوا حرمته، وأن يسهروا على خدمته،
وأن يصلحوا بين طوائفه، وأن يقربوا بين مذاهبه،
وأن يحققوا فيه شعاراتهم التى صيغت بسحر البيان، وكان منها: سنحيا كراما،
وسنعيش فى أمن الإسلام، وسنحصل على الحقوق بالشريعة، وسندحر العلمانيين
والليبراليين والشيوعيين وكأن القضية هى أن يكون الإسلام أو لا يكون
، وأن المعركة هى بين حزبى الله والشيطان.
وتكشفت الحقائق لكل ذى عينين، فلم تكن المعركة الانتخابية بين المسلمين وبين كفار قريش
، أو بين المصريين وبين الصهاينة، وإنما كانت مكيافيلية الغاية فيها تبرر الوسيلة.
وحيث إن غايتهم هى الأخذ وليس العطاء، وقد أخذوا ما أرادوا من أصوات،
وليس لهم حاجة إلى الشعب الآن لبعد زمن الانتخابات فكأنهم لا يسمعون أنين الناس
ولا يشعرون بحرقتهم بسبب خطف بعض أبنائهم، ولا يرون سقوط القتلى والجرحى
ولا يشاهدون البرامج التى تُظهر فزع الأهالى من حرب الشوارع فى بعض المدن
واشتعال الفتنة بين بعض العوائل والقرى؛ لأن هذا سيكشف كذب الأساس الذى بنوا عليه دعايتهم الانتخابية
بين الإسلام وعدمه، أو بين الحق والباطل. فالمعركة الانتخابية هى فى الحقيقة بين فدائى صادق
يخدم الناس لأن الله حبب إليه بذل الخير ولو لم يكن مسلماً
وبين وصولى خادع يتسلق الناس لأنه مبتلى بالطمع والأنانية ولو كان مسلما.
إن هؤلاء المكيافيليين، ولو كان بشعارات دينية، لا يستحقون ثقة الشعب فى الانتخابات القادمة؛
لأنهم اعتادوا الأخذ دون العطاء؛ إذ لو كانوا صادقين حقاً فى شعاراتهم البراقة
فلماذا لم يحشدوا أنفسهم فى غزوة الإصلاح والصلح بين العوائل المتقاتلة
وبين القرى المتحاربة كما حشدوها فى غزوة الصناديق وهم قادرون مالياً وإعلامياً
ووعظياً على ذلك؟ وما أمر الانتخابات الدستورية أو البرلمانية أو الرئاسية ببعيد.
أم أن الطبع فى الأخذ يغلب التطبع بالعطاء.