الرقصُ تحت المطرفاطمة ناعوت
كان نهاراً مشحوناً بالعمليات والمرضى. الساعةُ تشارف الثامنة، حينما اندفع من باب المستشفى عجوزٌ يلوّح
بيده وضمادة حول إبهامه. جاء ليفكّ الغُرَزَ عن جرح برأ. يهرول هنا وهناك متكئاً على عصاه،
بقدر ما تسمح شيخوخته، باحثاً عمن يساعده لأنه فى عجلة فلديه موعدٌ مهمٌّ فى التاسعة.
أعجبتنى حيويته رغم الوهن والعَجَز. فسألته أن يهدأ، لأن الأمر قد يستغرق ساعة قبل أن يتمكن أحد الأطباء من فحصه.
كست وجهه غيمةُ حزن وراح ينظر فى ساعته كل دقيقة بقلق. فقررت أن أفحص جرحه. تبيّنتُ أن إبهامه التأم.
لذا أزلتُ الغرز، وعقمتُ الجرح وضمّدته. فى أثناء ذلك، سألته إن كان موعده المُلحُّ مع طبيب آخر ما يفسّر تعجّله.
فأجابنى بالنفى. بل عليه أن يذهب إلى دار المسنّين مبكراً لكى يتناول الفطور مع زوجته، نزيلة الدار.
سألته عن سبب إقامتها فى دار المسنين. فقال إنها هناك منذ وقت طويل، لأنها مريضة ألزهايمر ولا تتذكر أحداً،
حتى أقرب الناس إليها. سألته إن كانت زوجته سوف تشعر بالحزن، أو ربما ترفض تناول فطورها إن تأخر عنها.
فقال ما لم أتوقّع سماعه. هى حتى لم تعد تعرف مَن هو! فقدت المقدرةَ على التعرّف عليه منذ خمس سنوات!
اندهشتُ كثيراً. لا من نسيانها إياه، فأنا طبيبٌ وأعرف أن طبيعة ذلك المرض الوحشى،
أن ينسى المريضُ كل عالمه القديم بما فيه، ومَن فيه. بل كانت دهشتى من هذا الرجل.
إن كانت زوجته لم تعد تعرفه، ففيمَ تعجّله بالذهاب إليها، وإصراره على زيارتها كل صبح،
ليتناول فطوره مع امرأة لا تعرفه ولم تعد تحمل له أى ذكريات؟!
امرأة لا تعبأ بوجوده ولا تعيره أى اهتمام.
ابتسم العجوزُ وهو يربت على يدى قائلاً: «هى لا تعرف مَن أنا، لكننى ما زلت أعرفُ مَن هى».
كان علىَّ أن أكبح دموعى كيلا تخوننى، وهو يغادر المستشفى راكضاً. شعرت بذراعىَّ تقشعّران.
وقلتُ لنفسى: «ذلك هو نوع الحب الذى عشتُ طيلة حياتى أتمناه»، الحبُّ الحقيقى ليس جسدياً ولا رومانسياً.
الحبُّ هو قبول كل ما كان، وما يكون وما سيكون، وما لن يكون أبداً.
أكثر الناس سعادةً ليسوا بالضرورة مَن يمتلكون الأفضلَ؛ بل من يصنعون الأفضلَ مما يمتلكونه بالفعل،
وإن كان قليلا أو معطوباً.
«الحياةُ ليست كيف نقدر أن نحيا أثناء العاصفة، بل كيف نرقصُ تحت المطر».
كانت تلك شهادة أحد الأطباء البريطانيين، الذين أُتيح لهم أن يتعلموا درس الحياة الأعمق.
لا عبر دروس التشريح، وعبرة الموت والحياة، بل تعلّمه من جرح صغير فى إبهام عجوز،
عرف كيف يحبّ. ذكرتنى تلك الواقعة، بقصة جميلة، كتبها القاص البريطانى المعاصر جون ريفنسكروفت،
عنوانها «أغنيةٌ من أجل جينى»، قمتُ بترجمتها إلى العربية ربما أنشرها هنا يوماً.