[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] زواج لا مفر منهلم يكن لدى حتشبسوت أي رغبـة في الزواج من أخيها الذي يكبرها بعامين.
فهي لم تجد فيه الصفات التي تتطلع إليها في رفيق حياتها. غير أنها كانـت سيئة الحظ.
فالواقع أن تحتمس "الثاني" كـان الرجل الوحيد الذي يبتغيه أقوى حزب في البلاد..
وهو حزب دعاة الحرب. فقد سكر هؤلاء بنشوة الانتصارات الكبيرة التي حققها والدها،
فباتوا يرون أن مصلحـة البلاد تقتضي مواصلة الحروب،
فتعالت صيحاتهم مطالبين بملك ذكر يستطيع أن يقود الجيوش ويتابع الغزو.
وكـان لا بد آخر الأمر أن توافق على الزواج من أخيها. ولكنها وقد علمت أنه يبغض سينموت
خشيت أن يطوح به إلى مكان بعيد بعد أن يشاركها في الحكم.
لذلك رأت أن تعهد إلى الأمير المهندس القيام بعمل يتأتى به بقاؤه قريبا منها ويستغرق إتمامه وقتا طويلا.
ولكن.. ماذا يمكن أن يكون مثل هذا العمل؟
ربما كان إنشاء معبدكبير، فهذا ما يستطيعه ذلك المهندس العبقري،
وإنما يجب أن يكون معبدا يفوق فخامته وروعته كل ما رآه الناس.
ولكـن حتـى يحين وقـت الشروع في ذلـك رأت حتشبسوت أن تقوم بضربة قوية
يدرك منها شعبها أنها قد صممت على أن تفرض عليه حكما مطلقا كـما يفعل الرجال.
فحينما اكتمل عقد وفود الشعوب التي أخضعها والدها من قبل وجـاءت لتقديم الهدايا
وتجديد الولاء للملكة.. وأمام كل الأمراء والنبلاء والكهنة..
رأى الجميع أمامهم فرعونا حقيقيا اكتمل جلاله بوجود لحية صغيره فوق ذقنه.
كان هذا هو في الحقيقة ما خططت له حتشبسوت.
فبدلا من أن يرى الجميع ملكـة ترفل في ثوب نسـائي جميل
وتزهـو بشعرهـا المرسل على طريقـة ملكـات مصر،
رأوها ترتدي قميصـا فضفاضا من الكتان الخشن مما يستعمله الرجال،
ومن فوقـه صديرية، وبدا السوط في يد والقضيب المعقوف رمز مفتاح الحياة في الأخرى.
كـما رأوا فوق رأسها التاج المزدوج الثقيل، وقد بدا وجهها جامدا عبوسا تشع منه عينان ثابتتا النظرات،
وتتدلى منه لحية صناعية صيغت من الذهب على غرار لحية الإلهة أوزوريس.. !
حيال هذا المشهد الذي دل على أن حتشبسوت لا تقل عزما وحزما عن الرجال،
لم يكن هناك من يجرؤ على الاعتراض بشيء.
وكان كل ما طلبوه أن يتم زواج الملكة من تحتمس "الثاني" في أقـرب وقت مستطاع
ليكون بجانبها على العرش.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] الحاكم الحقيقي
كـما تنبأت حتشبسوت، كـان أول ما فكر فيه الملك الجديد أن يـرسل
سينموت إلى بقعة نائية على النيل.. غير أنها كـانت قـد أعدت خطة لمواجهـة مثل هذا الإجراء.
فلم يمض شهران حتى كان سينموت قد تلقى أمرا ملكيا بالشروع في إنشاء معبد جنائزي كبير..
يجب أن يقوم في سفح جبل طيبة الغربي، ليكون مدخـلا إلى المقبرة السرية الحصينة
التي تحفر في جدار الجبل.
وما أسرع ما اتجه سينموت إلى التنفيذ، مدفوعا بكل ما يعتمل في قلبه لإرضاء الملكـة
التي امتلأت أعـماقها بالحب لهذا الفتى الرائع.
وإذا كـان النفور قـد استحكم بينها وبين زوجها،
فالواقع أن تولي تحتمس الثاني المشاركة لها في الملك كان في نظر الشعب شرعيا لا غبار عليه.
ولكن الأحوال كلها كـانت تدل على أن زواجه من حتشبسوت كـان زواجا رسميا
ليظهر أمام الشعب أن على أريكة الملك فرعونا،
أما غير ذلك فقد كانت حتشبسوت هي المسيطرة على البلاد..
فهي الوارثة الحقيقية للعرش.. بينما تحتمس لم يكن قد خلق ليكون فرعونا.
وتمر السنون، وتستطيع حتشبسـوت أن تحكم البلاد ولفترة طويلة كانت كلها خيرا وسلاما،
وكان إلى جانبها رجال مخلصون ومستشارون ناصحون
يعرفون الأمور بعد عرضها عليها وتبادل المشورة معها، وكان أبرز هؤلاء هو كبير الكهنة هابوسنيب
ذلك العجوز الذي كان يحاول دائما أن يزن أفعاله وأقوالـه
والذي اطمأن تحتمس الأول إليه لكي يكون بجانب ابنته حتشبسوت.
وإذا كانت الملكة قد تجاهلت زوجها كثيرا حتى كاد يصبح مهملا لا وزن له
وهي التي تحكم وتأمر وتنهي، إلا أن الأمر بات يحتاج إليه عندما ثارت بلاد كـوش بالنوبة الجنوبية
وأعلنت العصيان. وتولى تحتمس الثاني قيادة الحملة العسكرية لإخماد الثورة
حيث عاد الجيش بأسرى كثيرين ممـا أعاد له هيبته بعد أن حقق النصر،
ولكن سرعان ما فقد هذه الهيبة عندما فشل في إخماد عصيان القبائل الليبية غربي البلاد.
ولأنه كان سهل الانقيـاد فقد جعلته زوجته طوع بنانها
واستمرت هي صاحبة الحل والعقد في كل الأمور.
تحت صولجان الفرعون المرأة استطاعت مصر أن تغتني وتزدهر وقامت المباني والمنشآت
وتوالي مسير السفن في النيل والقوافل على البر محملة بالمحاصيل الثمينة من البقاع النائية.
أما سينموت، فقد كان لا يزال يواصل العمل لإنهاء المعبدالجنائزي لملكته.
وكـان ينفذ بكـل دقة تعليماتها الملكية ويسجل بالنقوش والرسوم
كل ما كانت تستهدفه من تأكيد حقها في العرش.
وحـين كـاد المشروع يقارب الانتهاء، بدت هناك حاجة شديدة لإحضار أخشاب من بلاد بونت-
وهي الصومال الإفريقي- لإكمال البناء وأمرت حتشبسوت بإرسال بعثة إلى بلاد بونت..
أرض البخور والأخشاب والمر والعجائب الخفية. وعندما عادت البعثة
جلبت معها كميات وفية من أخشاب الغابات والأبنوس الأسود والأخضر واللدائن المعطـرة،
وجلود الفهود والنمور والقرود العجيبة..
وكل ذلك سجله سينموت على جـدران الرواق الجنوبي للمدرج الثاني في المعبد
مع وصف تفصيلي لرحلة البعثة التي أرسلتها الملكة..
وجـاء يـوم عاش فيـه سينموت قمة مجده كفنان أصيل.
وبـات يعتقـد أن الحياة لا يمكن أن تتمخض عن مزيد من السعادة
حينما شاهد حتشبسوت في ردائها الموشى بالذهب تنزل من السفينة الملكية
الراسية على البر الغـربي وقـد حملت في يـديها شعـاري الملكيـة.
وتتقدم الملكـة نحو المعبدالكبير الذي بدت أعمدته البيضاء ملتصقـة بالجدار الجبلي الأحمر،
فأعطت بذلك لوحة رائعة من الديكور الطبيعي لا تزال آثارها باقية.
وقفت الملكـة على عتبـة المدرج الفخم المؤدي إلى المدخل،
وأخذت تشاهد في سكـون هيكل المبنى، ثم رفعت بصرها وأخـذت تتأمل طويلا تفـاصيله.
إنها تحفة فنية رائعة تمخضـت عنها عبقرية إنسان. قـالت الملكة في هدوء وهي تنظر إلى سينموت:
إنه عجيبة العجائب. بل إنه أبهى أشكال البهاء.. والآن أي شيء يستطاع به مكـافأتك
يا سينموت على هذا الإنجاز العظيم؟
وراحت الملكة تتجول في أرجاء المعبدالكبير وتتأمل الصور والرسم المنحوتة
على صف الأعمدة والجدران وهي تمثل مشاهد مختلفة من حياة الملكة منذ ولادتها حتى تتويجها..
ولكن أبرز ما فيها هو ما اتجهت إليه حتشبسوت فورا لترى ما إذا كان سينموت
قد استطاع أن يحقق لها هدفها الرئيسي.
ووقفت تتأمل الرسوم في إعجاب. إنها تهدف إلى البرهان على أن حتشبسوت ليست ابنة تحتمس الأول،
بل هي ابنة الإله آمون رع بالذات.. الذي أودع روحه في بطن الملكة أحموس
وأنساب في كيانها عطره الإلهي. يؤكـد كل ذلك المشهد الأخير بعد الولادة
حين تقف الإلهة حاتحور إلهة الحب تقدم لآمون المولود حتشبسوت فيهتف الإله جذلا:
-
صورة مجيدة تنحدر منى.. إنه ملك سيعتلي عـرش حورس إلى الأبـد ويحكم البلدين.
وأحست حتشبسـوت بسعادة غامرة لأن الرسوم ستؤكد للجميع أنها بالفعل ابنة الإله آمون..
وهي بذلك خليقة بأن تكـون الملكة الشرعية على البلاد.
واتجهت الملكـة إلى الرجل الذي استطاع أن يحقق أمنيتها وقالت له أمام الجميع:
-
لقد أثبت أنك خادم نافع يا سينموت، فقد استمعـت إلى تعليماتي وقمت بما طلبتـه على خير وجه.
وهـو أمر يجعلني راضية عنك. فلتكن صديقا للملك من الآن.
وإني إذ أقـول ذلك أعني أنه أصبح من حقك أن تـأكل خبز فرعون سيدك في معبدآمون رع.
وتناولت الملكـة من يد واحد من الخدم ريشة نعامة ذات قبضة ذهبية وصيديرية موشاة بالذهب،
وناولتها لسينموت، فأسرع إلى تناولها وهـو راكع. ففي تلك اللحظة
بدت له حتشبسوت بلحيتها الذهبية الصغيرة، ليست امرأة يعشقها الرجال..
بل فرعون عظيم يجله الناس ويقدسونه.