بحث عن حياة " أمير الشعراء أحمد شوقي "
تمهيد
نبذة عن حياة الشاعر
أحمد شوقي
أحمد شوقي.. أمير الشعراء
كان الشعر العربي على موعد مع القدر ، ينتظر من يأخذ بيده ، ويبعث فيه
روحًا جديدة تبث فيه الحركة والحياة ، وتعيد له الدماء في الأوصال ، فتتورد
وجنتاه نضرة وجمالاً بعد أن ظل قرونًا عديدة واهن البدن ، خامل الحركة ،
كليل البصر .
وشاء الله أن يكون " البارودي "
هو الذي يعيد الروح إلى الشعر العربي ، ويلبسه أثوابًا قشيبة ، زاهية
اللون ، بديعة الشكل والصورة ، ويوصله بماضيه التليد ، بفضل موهبته الفذة
وثقافته الواسعة وتجاربه الغنية .
ولم يشأ الله تعالى أن يكون البارودي هو وحده فارس الحلبة ونجم عصره - وإن
كان له فضل السبق والريادة - فلقيت روحه الشعرية الوثابة نفوسًا تعلقت بها
، فملأت الدنيا شعرًا بكوكبة من الشعراء من أمثال : إسماعيل صبري ، وحافظ إبراهيم ، وأحمد محرم ، وأحمد نسيم ، وأحمد الكاشف ، وعبد الحليم المصري . وكان أحمد شوقي هو نجم هذه الكوكبة وأميرها بلا منازع عن رضي واختيار ، فقد ملأ الدنيا بشعره ، وشغل الناس ، وأشجى القلوب .
المولد والنشأة
ولد أحمد شوقي
بحي الحنفي بالقاهرة في (20 من رجب 1287 هـ = 16 من أكتوبر 1870م) لأب
شركسي وأم من أصول يونانية ، وكانت جدته لأمه تعمل وصيفة في قصر الخديوي
إسماعيل ، وعلى جانب من الغنى والثراء ، فتكفلت بتربية حفيدها ونشأ معها في
القصر ، ولما بلغ الرابعة من عمره التحق بكُتّاب الشيخ صالح ، فحفظ قدرًا
من القرآن وتعلّم مبادئ القراءة والكتابة ، ثم التحق بمدرسة المبتديان
الابتدائية، وأظهر فيها نبوغًا واضحًا كوفئ عليه بإعفائه من مصروفات
المدرسة ، وانكب على دواوين فحول الشعراء حفظًا واستظهارًا ، فبدأ الشعر يجري على لسانه .
وبعد أن أنهى تعليمه بالمدرسة وهو في الخامسة عشرة من عمره التحق بمدرسة
الحقوق سنة (1303هـ = 1885م) ، وانتسب إلى قسم الترجمة الذي قد أنشئ بها
حديثًا ، وفي هذه الفترة بدأت موهبته الشعرية تلفت نظر أستاذه الشيخ " محمد البسيوني "
، ورأى فيه مشروع شاعر كبير، فشجّعه ، وكان الشيخ بسيوني يُدّرس البلاغة
في مدرسة الحقوق ويُنظِّم الشعر في مدح الخديوي توفيق في المناسبات ، وبلغ
من إعجابه بموهبة تلميذه أنه كان يعرض عليه قصائده قبل أن ينشرها في جريدة
الوقائع المصرية ، وأنه أثنى عليه في حضرة الخديوي ، وأفهمه أنه جدير
بالرعاية ، وهو ما جعل الخديوي يدعوه لمقابلته .
السفر إلى فرنسا
وبعد عامين من الدراسة تخرّج من المدرسة ، والتحق بقصر الخديوي توفيق ،
الذي ما لبث أن أرسله على نفقته الخاصة إلى فرنسا ، فالتحق بجامعة " مونبلييه "
لمدة عامين لدراسة القانون، ثم انتقل إلى جامعة باريس لاستكمال دراسته حتى
حصل على إجازة الحقوق سنة (1311هـ = 1893م) ، ثم مكث أربعة أشهر قبل أن
يغادر فرنسا في دراسة الأدب الفرنسي دراسة جيدة ومطالعة إنتاج كبار الكتاب
والشعر .
العودة إلى مصر
عاد شوقي إلى
مصر فوجد الخديوي عباس حلمي يجلس على عرش مصر ، فعيّنه بقسم الترجمة في
القصر ، ثم ما لم لبث أن توثَّقت علاقته بالخديوي الذي رأى في شعره عونًا
له في صراعه مع الإنجليز ، فقرَّبه إليه بعد أن ارتفعت منزلته عنده ،
وخصَّه الشاعر العظيم بمدائحه في غدوه ورواحه ، وظل شوقي
يعمل في القصر حتى خلع الإنجليز عباس الثاني عن عرش مصر ، وأعلنوا الحماية
عليها سنة (1941م) ، وولّوا حسين كامل سلطنة مصر ، وطلبوا من الشاعر
مغادرة البلاد ، فاختار النفي إلى برشلونة في أسبانيا ، وأقام مع أسرته في
دار جميلة تطل على البحر المتوسط .
شعره في هذه الفترة
ودار شعر شوقي
في هذه الفترة التي سبقت نفيه حول المديح ؛ حيث غمر الخديوي عباس حلمي
بمدائحه والدفاع عنه ، وهجاء أعدائه ، ولم يترك مناسبة إلا قدَّم فيها مدحه
وتهنئته له ، منذ أن جلس على عرش مصر حتى خُلع من الحكم ، ويمتلئ الديوان
بقصائد كثيرة من هذا الغرض .
ووقف شوقي مع
الخديوي عباس حلمي في صراعه مع الإنجليز ومع من يوالونهم ، لا نقمة على
المحتلين فحسب ، بل رعاية ودفاعًا عن ولي نعمته كذلك ، فهاجم رياض باشا
رئيس النُظّار حين ألقى خطابًا أثنى فيه على الإنجليز وأشاد بفضلهم على مصر
، وقد هجاه شوقي بقصيدة عنيفة جاء فيها :
غمرت القوم إطراءً وحمدًا @@@ وهم غمروك بالنعم الجسام
خطبت فكنت خطبًا لا خطيبًا @@@ أضيف إلى مصائبنا العظام
لهجت بالاحتلال وما أتاه @@@ وجرحك منه لو أحسست دام
وبلغ من تشيعه للقصر وارتباطه بالخديوي أنه ذمَّ أحمد
عرابي وهجاه بقصيدة موجعة ، ولم يرث صديقه مصطفى كامل إلا بعد فترة ،
وكانت قد انقطعت علاقته بالخديوي بعد أن رفع الأخير يده عن مساندة الحركة
الوطنية بعد سياسة الوفاق بين الإنجليز والقصر الملكي ؛ ولذلك تأخر رثاء شوقي
بعد أن استوثق من عدم إغضاب الخديوي ، وجاء رثاؤه لمصطفى كامل شديد اللوعة
صادق الأحزان ، قوي الرنين ، بديع السبك والنظم، وإن خلت قصيدته من الحديث
عن زعامة مصطفى كامل وجهاده ضد المستعمر ، ومطلع القصيدة :
المشرقان عليك ينتحبان @@@ قاصيهما في مأتم والدان
يا خادم الإسلام أجر مجاهد @@@ في الله من خلد ومن رضوان
لمّا نُعيت إلى الحجاز مشى الأسى @@@ في الزائرين وروّع الحرمان
وارتبط شوقي
بدولة الخلافة العثمانية ارتباطًا وثيقًا ، وكانت مصر تابعة لها، فأكثر من
مدح سلطانها عبد الحميد الثاني ؛ داعيًا المسلمين إلى الالتفات حولها ؛
لأنها الرابطة التي تربطهم وتشد من أزرهم ، فيقول :
أما الخلافة فهي حائط بيتكم @@@ حتى يبين الحشر عن أهواله
لا تسمعوا للمرجفين وجهلهم @@@ فمصيبة الإسلام من جهالة
ولما انتصرت الدولة العثمانية في حربها مع اليونان سنة (1315هـ = 1987م) كتب مطولة عظيمة بعنوان " صدى الحرب " ، أشاد فيها بانتصارات السلطان العثماني ، واستهلها بقوله :
بسيفك يعلو والحق أغلب @@@ وينصر دين الله أيان تضرب
وهي مطولة تشبه الملاحم ، وقد قسمها إلى أجزاء كأنها الأناشيد في ملحمة ، فجزء تحت عنوان " أبوة أمير المؤمنين " ، وآخر عن " الجلوس الأسعد " ، وثالث بعنوان " حلم عظيم وبطش أعظم " . ويبكي سقوط عبد الحميد الثاني في انقلاب قام به جماعة الاتحاد والترقي ، فينظم رائعة من روائعه العثمانية التي بعنوان " الانقلاب العثماني وسقوط السلطان عبد الحميد " ، وقد استهلها بقوله :
سل يلدزا ذات القصور @@@ هل جاءها نبأ البدور
لو تستطيع إجابة @@@ لبكتك بالدمع الغزير
ولم تكن صلة شوقي
بالترك صلة رحم ولا ممالأة لأميره فحسب ، وإنما كانت صلة في الله ، فقد
كان السلطان العثماني خليفة المسلمين ، ووجوده يكفل وحدة البلاد الإسلامية
ويلم شتاتها ، ولم يكن هذا إيمان شوقي وحده ، بل كان إيمان كثير من الزعماء المصريين .
وفي هذه الفترة نظم إسلامياته الرائعة ، وتعد قصائده في مدح الرسول - r
- من أبدع شعره قوة في النظم ، وصدقًا في العاطفة، وجمالاً في التصوير ،
وتجديدًا في الموضوع ، ومن أشهر قصائده " نهج البردة " التي عارض فيها البوصيري في بردته ، وحسبك أن يعجب بها شيخ الجامع الأزهر آنذاك محدث العصر الشيخ " سليم البشري " فينهض لشرحها وبيانها . يقول في مطلع القصيدة :
ريم على القاع بين البان والعلم @@@ أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
ومن أبياتها في الرد على مزاعم المستشرقين الذين يدعون أن الإسلام انتشر بحد السيف :
قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا @@@ لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم
جهل وتضليل أحلام وسفسطة @@@ فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم
ويلحق بنهج البردة قصائد أخرى ، مثل : الهمزية النبوية ، وهي معارضة أيضًا للبوصيري ، وقصيدة ذكرى المولد التي مطلعها :
سلوا قلبي غداة سلا وتابا @@@ لعل على الجمال له عتابًا
كما اتجه شوقي
إلى الحكاية على لسان الحيوان ، وبدأ في نظم هذا الجنس الأدبي منذ أن كان
طالبًا في فرنسا ؛ ليتخذ منه وسيلة فنية يبث من خلالها نوازعه الأخلاقية
والوطنية والاجتماعية ، ويوقظ الإحساس بين مواطنيه بمآسي الاستعمار ومكائده
.
وقد صاغ شوقي هذه الحكايات بأسلوب سهل جذاب ، وبلغ عدد تلك الحكايات 56 حكاية ، نُشرت أول واحدة منها في جريدة " الأهرام " سنة (1310هـ = 1892م ) ، وكانت بعنوان " الهندي والدجاج " ، وفيها يرمز بالهندي لقوات الاحتلال وبالدجاج لمصر .
النفي إلى أسبانيا
وفي الفترة التي قضاها شوقي
في أسبانيا تعلم لغتها ، وأنفق وقته في قراءة كتب التاريخ ، خاصة تاريخ
الأندلس ، وعكف على قراءة عيون الأدب العربي قراءة متأنية ، وزار آثار
المسلمين وحضارتهم في اشبيلية وقرطبة وغرناطة .
وأثمرت هذه القراءات أن نظم شوقي أرجوزته " دول العرب وعظماء الإسلام "
، وهي تضم 1400 بيت موزعة على (24) قصيدة ، تحكي تاريخ المسلمين منذ عهد
النبوة والخلافة الراشدة ، على أنها رغم ضخامتها أقرب إلى الشعر التعليمي ،
وقد نُشرت بعد وفاته .
وفي المنفى اشتد به الحنين إلى الوطن وطال به الاشتياق وملك عليه جوارحه
وأنفاسه . ولم يجد من سلوى سوى شعره يبثه لواعج نفسه وخطرات قلبه ، وظفر
الشعر العربي بقصائد تعد من روائع الشعر صدقًا في العاطفة وجمالاً في
التصوير ، لعل أشهرها قصيدته التي بعنوان " الرحلة إلى الأندلس " ، وهي معارضة لقصيدة البحتري التي يصف فيها إيوان كسرى ، ومطلعها :
صنت نفسي عما يدنس نفسي @@@ وترفعت عن جدا كل جبس
وقد بلغت قصيدة شوقي
(110) أبيات تحدّث فيها عن مصر ومعالمها ، وبثَّ حنينه وشوقه إلى رؤيتها ،
كما تناول الأندلس وآثارها الخالدة وزوال دول المسلمين بها ، ومن أبيات
القصيدة التي تعبر عن ذروة حنينه إلى مصر قوله :
أحرام على بلابله الدوح @@@ حلال للطير من كل جنس
وطني لو شُغلت بالخلد عنه @@@ نازعتني إليه في الخلد نفسي
شهد الله لم يغب عن جفوني @@@ شخصه ساعة ولم يخل حسي
العودة إلى الوطن
عاد شوقي إلى
الوطن في سنة (1339 هـ = 1920م ) ، و استقبله الشعب استقبالاً رائعًا
واحتشد الآلاف لتحيته ، وكان على رأس مستقبليه الشاعر الكبير " حافظ إبراهيم " ، وجاءت عودته بعد أن قويت الحركة الوطنية واشتد عودها بعد ثورة 1919 م ، وتخضبت أرض الوطن بدماء الشهداء ، فمال شوقي
إلى جانب الشعب ، وتغنَّى في شعره بعواطف قومه وعبّر عن آمالهم في التحرر
والاستقلال والنظام النيابي والتعليم ، ولم يترك مناسبة وطنية إلا سجّل
فيها مشاعر الوطن وما يجيش في صدور أبنائه من آمال .
لقد انقطعت علاقته بالقصر واسترد الطائر المغرد حريته ، وخرج من القفص
الذهبي ، وأصبح شاعر الشعب المصري وترجمانه الأمين ، فحين يرى زعماء
الأحزاب وصحفها يتناحرون فيما بينهم ، والمحتل الإنجليزي لا يزال جاثم على
صدر الوطن ، يصيح فيهم قائلاً :
إلام الخلف بينكم إلاما ؟ @@@ وهذي الضجة الكبرى علاما ؟
وفيم يكيد بعضكم لبعض @@@ وتبدون العداوة والخصاما ؟
وأين الفوز ؟ لا مصر استقرت @@@ على حال ولا السودان داما
ورأى في التاريخ الفرعوني وأمجاده ما يثير أبناء الشعب ويدفعهم إلى الأمام
والتحرر ، فنظم قصائد عن النيل والأهرام وأبي الهول . ولما اكتشفت مقبرة
توت عنخ آمون وقف العالم مندهشًا أمام آثارها المبهرة ، ورأى شوقي في ذلك فرصة للتغني بأمجاد مصر ؛ حتى يُحرِّك في النفوس الأمل ويدفعها إلى الرقي والطموح ، فنظم قصيدة رائعة مطلعها :
قفي يا أخت يوشع خبرينا @@@ أحاديث القرون الغابرينا
وقصي من مصارعهم علينا @@@ ومن دولاتهم ما تعلمينا
وامتد شعر شوقي بأجنحته ليعبر عن آمال العرب وقضاياهم ومعاركهم ضد المستعمر، فنظم في " نكبة دمشق " وفي " نكبة بيروت " وفي ذكرى استقلال سوريا وذكرى شهدائها ، ومن أبدع شعره قصيدته في " نكبة دمشق " التي سجّل فيها أحداث الثورة التي اشتعلت في دمشق ضد الاحتلال الفرنسي، ومنها :
بني سوريّة اطرحوا الأماني @@@ وألقوا عنكم الأحلام ألقوا
وقفتم بين موت أو حياة @@@ فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
وللأوطان في دم كل حرٍّ @@@ يد سلفت ودين مستحقُّ
وللحرية الحمراء باب @@@ بكل يد مضرجة يُدَقُّ
ولم تشغله قضايا وطنه عن متابعة أخبار دولة الخلافة العثمانية ، فقد كان
لها محبًا عن شعور صادق وإيمان جازم بأهميتها في حفظ رابطة العالم الإسلامي
، وتقوية الأواصر بين شعوبه ، حتى إذا أعلن " مصطفى كمال أتاتورك " إلغاء الخلافة سنة 1924 وقع الخبر عليه كالصاعقة ، ورثاها رثاءً صادقًا في قصيدة مبكية مطلعها :
عادت أغاني العرس رجع نواح @@@ ونعيت بين معالم الأفراح
كُفنت في ليل الزفاف بثوبه @@@ ودفنت عند تبلج الإصباح
ضجت عليك مآذن ومنابر @@@ وبكت عليك ممالك ونواح
الهند والهة ومصر حزينة @@@ تبكي عليك بمدمع سحَّاح
إمارة الشعر
أصبح شوقي بعد
عودته شاعر الأمة المُعبر عن قضاياها ، لا تفوته مناسبة وطنية إلا شارك
فيها بشعره ، وقابلته الأمة بكل تقدير وأنزلته منزلة عالية ، وبايعه
شعراؤها بإمارة الشعر سنة ( 1346هـ = 1927م ) في حفل أقيم بدار الأوبرا
بمناسبة اختياره عضوًا في مجلس الشيوخ ، وقيامه بإعادة طبع ديوانه
"الشوقيات " . وقد حضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه ، وأعلن حافظ إبراهيم باسمهم مبايعته بإمارة الشعر قائلاً :
بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي @@@ بشعر أمير الدولتين ورجِّعي
أعيدي على الأسماع ما غردت به @@@ براعة شوقي في ابتداء ومقطع
أمير القوافي قد أتيت مبايعًا @@@ وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
مسرحيات شوقي
أحمد شوقي و سعد زغلول
بلغ أحمد شوقي
قمة مجده ، وأحس أنه قد حقق كل أمانيه بعد أن بايعه شعراء العرب بإمارة
الشعر ، فبدأ يتجه إلى فن المسرحية الشعرية ، وكان قد بدأ في ذلك أثناء
إقامته في فرنسا لكنه عدل عنه إلى فن القصيد .
وأخذ ينشر على الناس مسرحياته الشعرية الرائعة ، استمد اثنتين منها من التاريخ المصري القديم ، وهما : " مصرع كليوباترا " و " قمبيز " ، والأولى منهما هي أولى مسرحياته ظهورً ، وواحدة من التاريخ الإسلامي هي " مجنون ليلى " ، ومثلها من التاريخ العربي القديم هي " عنترة " ، وأخرى من التاريخ المصري العثماني وهي " علي بك الكبير " ، وله مسرحيتان هزليتان، هما : " الست هدي " ، و " البخيلة " .
ولأمر غير معلوم كتب مسرحية " أميرة الأندلس " نثرًا ، مع أن بطلها أو أحد أبطالها البارزين هو الشاعر المعتمد بن عباد .
وقد غلب الطابع الغنائي والأخلاقي على مسرحياته ، وضعف الطابع الدرامي ،
وكانت الحركة المسرحية بطيئة لشدة طول أجزاء كثيرة من الحوار ، غير أن هذه
المآخذ لا تُفقِد مسرحيات شوقي قيمتها الشعرية الغنائية ، ولا تنفي عنها كونها ركيزة الشعر الدرامي في الأدب العربي الحديث .
مكانة شوقي
منح الله شوقي
موهبة شعرية فذة ، وبديهة سيالة ، لا يجد عناء في نظم القصيدة ، فدائمًا
كانت المعاني تنثال عليه انثيالاً وكأنها المطر الهطول ، يغمغم بالشعر
ماشيًا أو جالسًا بين أصحابه ، حاضرًا بينهم بشخصه غائبًا عنهم بفكره ؛
ولهذا كان من أخصب شعراء العربية ؛ إذ بلغ نتاجه الشعري ما يتجاوز ثلاثة
وعشرين ألف بيت وخمسمائة بيت ، ولعل هذا الرقم لم يبلغه شاعر عربي قديم أو
حديث .
وكان شوقي
مثقفًا ثقافة متنوعة الجوانب ، فقد انكب على قراءة الشعر العربي في عصور
ازدهاره ، وصحب كبار شعرائه ، وأدام النظر في مطالعة كتب اللغة والأدب ،
وكان ذا حافظة لاقطة لا تجد عناء في استظهار ما تقرأ ؛ حتى قيل بأنه كان
يحفظ أبوابًا كاملة من بعض المعاجم ، وكان مغرمًا بالتاريخ يشهد على ذلك
قصائده التي لا تخلو من إشارات تاريخية لا يعرفها إلا المتعمقون في دراسة
التاريخ ، وتدل رائعته الكبرى " كبار الحوادث في وادي النيل " التي نظمها وهو في شرخ الشباب على بصره بالتاريخ قديمة وحديثه .
وكان ذا حس لغوي مرهف وفطرة موسيقية بارعة في اختيار الألفاظ التي تتألف مع
بعضها لتحدث النغم الذي يثير الطرب ويجذب الأسماع ، فجاء شعره لحنًا
صافيًا ونغمًا رائعًا لم تعرفه العربية إلا لقلة قليلة من فحول الشعراء .
وإلى جانب ثقافته العربية كان متقنًا للفرنسية التي مكنته من الإطلاع على
آدابها والنهل من فنونها والتأثر بشعرائها ، وهذا ما ظهر في بعض نتاجه وما
استحدثه في العربية من كتابة المسرحية الشعرية لأول مرة .
وقد نظم الشعر العربي في كل أغراضه من مديح ورثاء وغزل ، ووصف وحكمة ، وله
في ذلك أوابد رائعة ترفعه إلى قمة الشعر العربي ، وله آثار نثرية كتبها في
مطلع حياته الأدبية ، مثل : " عذراء الهند " ، ورواية " لادياس " ، و "ورقة الآس " ، و"أسواق الذهب"، وقد حاكى فيه كتاب " أطواق الذهب " للزمخشري ، وما يشيع فيه من وعظ في عبارات مسجوعة .
وقد جمع شوقي شعره الغنائي في ديوان سماه " الشوقيات " ، ثم قام الدكتور محمد صبري السربوني بجمع الأشعار التي لم يضمها ديوانه ، وصنع منها ديوانًا جديدًا في مجلدين أطلق عليه " الشوقيات المجهولة " .
وفاته
ظل شوقي محل
تقدير الناس وموضع إعجابهم ولسان حالهم، حتى إن الموت فاجأه بعد فراغه من
نظم قصيدة طويلة يحيي بها مشروع القرش الذي نهض به شباب مصر ، وفاضت روحه
الكريمة في ( 13 من جمادى الآخرة = 14 من أكتوبر 1932م ) .
WWW
الباب الأول
حياة شوقي وثقافته
وملامح شخصيته
الفصل الأول : في مرحلة التعليم
الفصل الثاني : فترة المجد في حياة شوقي
الفصل الثالث : العاطفة الهادئة المركزة التي تنأي عن الصخب
الفصل الأول
مرحلة التعليم
يدخل شوقي في الرابعة من عمره كتاب " الشيخ صالح "
ويبدو أن الدراسة في هذا الكتاب كانت سيئة تعتمد علي التلقين والحفظ في
التعليم ، والعصا ، أو ما هو أقصي منها في التربية ، وهذا ما جعله يصرح بأن
إدخاله الكتاب كان " من أهلي جناية علي وجداني " وينتهي شوقي من دراسة المرحلة الثانوية في سن مبكرة " سنة 1885 م " ثم ينتهي من دراسة الحقوق والترجمة عن الفرنسية " سنة 1889 م "
وكان في أثناء دراسته للحقوق يتلقى نوعاً أخر من الدراسة الأدبية ، فقد
تتلمذ علي يد الشيخ حسين المرصفي أستاذ البارودي أيضاً وقرأ معه كتاب " الكشكول " لبهاء الدين العاملي وشعر البهاء زهير وكذلك اتصل شوقي في هذه المرحلة بالشيخ حفني ناصف وتتلمذ عليه سنتين .
ومع انتهاء شوقي من دراسته الحقوق تكون موهبته قد نضجت وأعلن ميلاد شاعر جديد لمصر .
وصلة شوقي
الوطيدة بالقصر ، وبالخديوي توفيق ، أهلته لبعثه يدرس فيها الحقوق في
فرنسا أوائل سنة 1891 م ، حيث قضي سنتين في باريس وثالثة في مونبلييه ،
وكان هدف توفيق من هذه البعثة أن يصقل موهبته ، ليكون شاعره " الخاص " المسبح بحمده ، والمتحدث باسمه لذلك يطلب منه في إحدى رسائله أن يتمتع بمعالم المدينة القائمة أمامه وأن " تأتينا من مدينة النور باريز بقبس تستضئ به الآداب العربية .
علي أن شوقي – فيما يبدو – كان يقف من الأدب ومذاهبه موقف الهاوي المتذوق ، يتأثر بشعراء أو بجوانب من فنهم ، وليس بسمات محددة " لمذهب بعينه "
وقد صرح منذ وقت مبكر بإعجابه بثلاثة شعراء فرنسيين علي اختلاف اتجاهاتهم
وهم ( فيكتور هوجو – ألفرد دي موسيه – لامرتين ) ، وفي أواخر حياته سنة
1921 م كان شعراء العربية عنده آثر من أي شاعر أخر وننتهي إلي أن تأثر شوقي بالآداب الغربية لم يكن منظماً ، بحيث يبدو واضح المعالم في أدبه بصفة عامة باستثناء " شكسبير " الذي تتبعه بدقة في مسرحيته " كيلوباترا " .
الفصل الثاني
فترة المجد في حياة شوقي وفنه
يعود شوقي
من بعثته أواخر سنة 1893 م بعد وفاة الخديوي توفيق ، ليعمل في معية عباس
حلمي الثاني بعد أن أقنع به وهما يقتربان بحكم السن بدرجة تذكرنا بعلاقة
المتنبي بسيف الدولة الحمداني ، وتشهد الفترة من سنة 1893 : 1914 م ، سنوات
المجد الاجتماعي والأدبي بالنسبة لشوقي .
فمن الناحية الاجتماعية كان شوقي
شخصيه مرموقة في بلاط الخديوي ، وصار من أقرب المقربين إليه ، يوفده
مندوباً عنه إلي الخارج ، ويحضره ندواته واجتماعاته السياسية باعتباره أحد
رجاله ، ونتيجة لهذا التقارب , كان شوقي
فيما يبدو – المعبر برضي واقتناع – عن سياسة القصر ومدح الخديوي ، وتحددت
صلته برجال الأمة وزعماء السياسة بحسب قربهم أو بعدهم من القصر .
الناحية الفنية :
فقد أسهم شوقي
في الإحياء الشعري وبدايات التجديد بمحاولات كثيرة كماً وكيفاً ، فشعره في
هذه المرحلة يمثل مرحلة متقدمة من مراحل إحياء الشعر العربي التي بدأها
البارودي ، حيث صارت الجملة الشعرية أصفي لغة ، وأثري خيالاً ، وأقوي
تركيباً ، محمله طاقه غنائية عذبة ، موظفة عناصر التراث القديم ومطورة لها ،
وهذه العودة إلي مصادر العروبة في الفن هي التي وحدت " الذوق " العربي حول شعر شوقي ، وأهلته بالتالي ليكون أمير الشعر العربي سنة 1927 م .
كذلك نجد عند شوقي في أثناء هذه الفترة بدايات للشعر " الوجداني " المعبر عن الزاد مثل قصيدته عن النفس التي يبدأها بقوله :
صحوت واستدركتني ، شيمتي الأدب وبت تنكرني اللذات والطرب
ويذكر فيها بعد ذلك :
أوشكت اتلف أقلامي وتتلفني وما أنلت بني مصر الذي طلبوا
هموا رأوا أن تظل القضب مغمدة فلن تذيب سوي أغمادها القضب
ويكاد ينفرد شوقي
أيضاً في هذه المرحلة ، بما يمكن أن نسميه بالشعر الوطني الذي يستلهم
تاريخ مصر منذ الفراعنة مشيداً بحضارتها الخالدة ، وتاريخها العريق تعبيراً
عن رغبة مصر في التحرر والاستقلال والقيام بدورها .