حَيرَةُ العقل المصرى

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]


حَيرَةُ العقل المصرى

أسامة السيد الأزهرى

انسحبت فكرة الأمة الواحدة من فكر المسلمين بالتدريج، منذ نحو
قرن ونصف من الزمان، فلم يعد المسلم يرى لها ظلالاً أو تجليات فى الفن،
والاقتصاد، والسياسة، والإدارة، ومناهج التعليم، وغيرها من شئون الحياة،
بحيث تراجع الأثر الفعلى للأمة الواحدة فى الواقع المعيش، وتحولت بالتدريج
إلى كلمة خالية من المضمون، فلما أن وقع ذلك بدأ البحث فى ديار الإسلام عن
انتماء بديل، وقد جاء ذلك كله فى سياقٍ تاريخى، وظروف دولية معقدة
ومتداخلة، تكونت فيها من حولنا حضارات أخرى على أسس وأنساق معرفية، وهويات
وفلسفات مختلفة عن رؤيتنا وهويتنا، وبرزت حضارات أخرى وفق مناهج مختلفة،
ومصادر معرفية مغايرة، وجعلت تتكامل وتتهيأ للنهوض، وقد كونت تلك الحضارات
نهضةً صناعيةً وعلميةً وتقنيةً وبحثيةً كبيرةً، وتداخلت معطياتها،
وفلسفاتها، وتداعياتها الاجتماعية والإدارية مع مجتمعاتنا فى تلك الفترة،
بل وقبلها بزمان، الحاصل أنه قد بدأ البحث عندنا فى مصر فى تلك الفترة عن
انتماءٍ بديل، فبرزت أطروحات كثيرة تحاول أن تملأ الفراغ، ولكل أطروحة منها
هيكل فكرى، ورؤية ومنهج، حتى صارت تلك الأطروحات تتجاذب عقلية الإنسان
المصرى، مما سبب حيرته فى كثير من المواقف، فبرزت فكرةُ القومية كانتماء
يلتحق به الكيان الإسلامى الذى تم تفكيكه، حتى صار الجزء العربى هو الذى
يحتفظ ببقايا الروابط القديمة من لغةٍ، وتاريخٍ مشتركٍ، وأرْضٍ متداخلةٍ
وغير ذلك، والعناصر المذكورة من اللغة، والعادات، والتاريخ، هى أهمُّ
مقومات القومية عند الشيخ على يوسف صاحب: (المؤيد) مثلاً، وبناءً على هذا
نشطت حركةٌ تنادى بالانتماء القومى، كان على رأسها عبدالرحمن الكواكبى،
وساطع الحصرى وله: (آراء وأحاديث فى الوطنية والقومية)، وعبد الله النديم
وجماعة، وكان هناك توجه آخر فى القومية يرى أنها لا تنهض إلا على وحدة
الدين، وقد تبنى هذا التوجه المرحوم مصطفى كامل، والأستاذ محمد فريد وجدى،
ثم بدأت تتحدد فى حدود القومية (العربية) مع جامعة الدول العربية، ثم مع
جمال عبدالناصر فى الخمسينات، وبرزت فكرة الوطنية ونشطت حركة تنادى بها،
وكان على رأسها سعد زغلول، وأحمد لطفى السيد، وسلامة موسى، وغيرهم، وكان
لقضية الوطنية حينئذ معنى معين، تلخص فى الشعار المشهور: (مصر للمصريين)،
وقد برز هذا الشعار قديماً أيام الخديو إسماعيل، فى مواجهة الحكم العثمانى،
وكان معناه: الشعور بالخصوصية المصرية، وإبراز الانتماء المصرى فى مواجهة
الانتماءات الأخرى، ثمّ كأنّه قد حصل تطورٌ تاريخى لمدلوله حسب المراحل
التاريخية، وقد كانت تعنى فى بعض مراحلها أن مصر لأبنائها، وأنه لا موضع
فيها لمستعمرٍ أو أجنبيٍّ محتلٍّ، وهذا المعنى صحيح تماماً، يوافق عليه كل
مصرى يحيى على هذه الأرض الطاهرة، ثم بدأ يطرأ على معناه تحول، وهو أن مصر
للمصريين من أبنائها دون غيرهم، أيًّا كان هذا الغير، مما انعكس على عقلية
كثير من المصريين بمعنى انفصال الملف المصرى عن الملف الفلسطينى، وانفصال
الملف المصرى عن الملف السودانى، رغم أن الأمن القومى فى البلدين واحد لا
يتجزأ، والدكتور رؤوف عباس حامد له كتاباتٌ مسهبةٌ حول الحقبة التاريخية
زمن الثورة العرابية، وحول مدلول شعار: (مصر للمصريين)، وللأستاذ سليم نقاش
كتاب: (مصر للمصريين)، فى تسعة أجزاء، وبرزت حركةُ التغريب، التى تنادى
بجعل مصر قطعة من أوروبا، وأننا أصلاً من عرق رومانى أو يونانى، لا صلة
بيننا وبين الأوساط المحيطة، وأنه لا نهضة لمصر حتى تصير قطعة من أوروبا،
وكان على رأسها طه حسين كما فى كتابه: (مستقبل الثقافة فى مصر) وجماعة،
وبرزت حركةٌ تنادى بالفرعونية والعودة إلى التاريخ المصرى القديم السابق
على الانتماء العربى الإسلامى، وتم فى ذلك الوقت اكتشافُ مقبرة توت عنخ
آمون على يد اللورد كارنرفون سنة 1922م، ورُوِّج إعلاميًّا لاكتشافه، وتبنت
بعض الصحف فى تلك الفترة فترة الثلاثينات شعار: (مصر الفرعونية)، كما
تُرجمت معظم الكتب الأجنبية التى تتناول تاريخ مصر الفرعونى، وكان ممن تحمس
لفكرة الفرعونية الأستاذ محمد حسين هيكل، وإسماعيل مظهر، وعارضهم جماعة
منهم فتحى رضوان، وزكى مبارك، وأحمد حسن الزيات، وهؤلاء رأوا عسر إحياء
فكرة الفرعونية، وأنها لا تؤدى إلى طائل، وما زال لهذه الدعوة ظلال فى
ثقافتنا المعاصرة، وبرزت حركاتٌ تنادى بإحياء الانتماء الدينى، كان منها
فكرةُ الجامعة الإسلامية على يد السيد جمال الدين الأفغانى، وتلامذته،
وفكرة عصبة الأمم الإسلامية بعد ذلك بكثير على يد المرحوم السنهورى، وكان
منها: جمعية الشبان المسلمين، وجمعية الهداية الإسلامية وكان على رأسها
الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر، وكان منها جماعة الإخوان المسلمين على
يد حسن البنا، فضلاً عن الوجود الدينيِّ الرسمى، من خلال المؤسسات الرسمية
كالأزهر الشريف، ودار الإفتاء المصرية، ووزارة الأوقاف، وكان من أثر ذلك أن
تقدم كلُّ توجه برؤية فى الإصلاح والتغيير، وتحديد الهوية، مما أنشأ
تعقيداً فكريًّا وثقافيًّا، وتداخلاً بين المناهج، على نحوٍ شديد التشابك.